أقلام ثقافية

ربى رباعي: التماسك اللفظي وسمات المعنى وجمالياته في "أنشودة المطر"

تمهيد: التعريف بالشاعر بدر شاكر السياب

يُعدّ بدر شاكر السياب (1926–1964) أحد أبرز رواد حركة الشعر الحر في الأدب العربي الحديث. وُلد في قرية جيكور بمحافظة البصرة في العراق، وعُرف بشعره الثائر على الشكل التقليدي للقصيدة العربية، حيث دمج بين الحداثة الفنية والهموم السياسية والوجدانية. امتاز شعره باستخدام الرموز والأساطير والتعبير عن أوجاع الذات والإنسان العربي. تُعدّ قصيدته "أنشودة المطر" (1954) من أبرز أعماله، وتجمع بين الرمزية الغنية واللغة الموسيقية، وتُعدّ مرآة لآلامه الشخصية وآلام وطنه.

أولًا: التماسك اللفظي في "أنشودة المطر"

1. التكرار

يُكثر السياب من تكرار كلمة "مطر":

"مطر... مطر... مطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

هذا التكرار لا يُستخدم فقط لتأكيد الكلمة، بل يُشكّل نغمة صوتية داخلية تُشبه وقع قطرات المطر، وتُضفي على النص بُعدًا موسيقيًا وتجريديًا. كما يُوظف المطر رمزًا متعدّد الأبعاد: للألم، للتجدد، وللخلاص.

2. الضمائر

يتنقل السياب بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، مما يعكس الانقسام بين الذاتي والجمعي:

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

تُظهر هذه الضمائر تفاعل الشاعر مع "الآخر" (المرأة، الوطن، الذات المزدوجة)، وتعكس تجربة وجدانية شاملة.

3. الروابط النحوية

كثافة استخدام أدوات الربط مثل: "و"، "أو"، "لكن"، "إذا"، "حين" تُمنح القصيدة تماسكًا لغويًا واضحًا:

"وفي العراق جوعُ

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

تُساعد هذه الروابط في تنظيم الأفكار وتوجيه السياقات الشعورية داخل النص.

ثانيًا: سمات المعنى في القصيدة

1. التجربة الوجودية

تعكس القصيدة معاناة الشاعر النفسية والوجودية من خلال صورة المطر التي لا ترمز للخصوبة فحسب، بل للغربة والانكسار:

"كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عام

فلم يجدْها – ثم حين لجَّ في السؤال

قالوا له: 'بعد غدٍ تعود'..."

(أنشودة المطر، ص: 27)

الطفل هنا صورة للإنسان العراقي الفاقد للحنان والأمن، والمطر يبعث هذا الإحساس بالأمل الزائف.

2. البنية الرمزية

يرتكز النص على عدد من الرموز المركزية:

المطر: رمز مركب يحمل دلالات الحياة، الموت، الثورة، الخلاص.

العينان، الطفل، الأم: رموز للبراءة، الحنين، والرغبة في الطمأنينة.

المزاريب، الضوء، القبور: رموز للامتداد بين الحياة والموت.

3. التحولات الدلالية

يتميز النص بحركته بين المستويات الشعورية والدلالية:

من الذات إلى الجماعة: من حزن الشاعر إلى جوع العراق.

من الماضي إلى الحاضر: عبر استدعاء الذاكرة والرموز الطفولية.

من اليأس إلى الرجاء: رغم الحزن، يظل المطر إشارة للبعث والخصب.

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

ثالثًا: جماليات المعنى

1. الصور الشعرية الحسية

يُبدع السياب في تشكيل صور شعرية مشهدية نابضة، ذات بُعد بصري وسمعي:

"تكاد، حين تبسم، تنبثق البروق

ويهطل المطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

تمتزج صورة المرأة بالطبيعة، وتُصبح جزءًا من نظام كوني شعري شامل.

2. الإيقاع الداخلي والخارجي

القصيدة مكتوبة على بحر الكامل بتفعيلات حرة، مما يتيح للشاعر حرية تعبير موسيقية تتناسب مع انهمار المطر:

"وفي العراق جوعُ...

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

الإيقاع يتماهى مع الحالة النفسية والسياسية والاجتماعية التي يُصورها النص.

3. المفارقة الشعرية

يُبرز السياب مفارقات شعورية عميقة:

الجمال وسط الحزن.

النور في قلب الظلمة.

الحياة التي تولد من صُلب الموت:

"والموت، والميلاد، والظلام، والضياء

فكيف ننسى؟!"

(أنشودة المطر، ص: 28)

هذه المفارقة تُمثل جوهر الوعي الوجودي في القصيدة.

خاتمة

في "أنشودة المطر"، يصل بدر شاكر السياب إلى ذروة الإبداع الشعري من خلال تماسك لغوي محكم يعتمد على التكرار، التنويع في الضمائر، والروابط النحوية، إلى جانب ثراء دلالي وجمالي عميق. لقد جعل من المطر معادلًا موضوعيًا يعكس حالة العراق والإنسان العربي عمومًا في صراعه بين اليأس والرجاء، الموت والميلاد، الظلمة والنور. هذه القصيدة تمثل لحظة تحول مفصلية في الشعر العربي الحديث، من حيث المضمون والشكل والرمزية.

***

ربى رباعي - الأردن

.......................

المصادر والمراجع

1. السياب، بدر شاكر. أنشودة المطر. دار العودة، بيروت، 1968.

2. عز الدين، كمال. الرمز في الشعر العربي الحديث. دار الفكر العربي، 1995.

3. جبرا، إبراهيم جبرا. الشعر العراقي الحديث: دراسة وتحليل. منشورات وزارة الثقافة العراقية، 1971.

4. العلوي، عبد العزيز. "أنشودة المطر والسياب والحداثة"، مجلة الآداب، العدد 4، 2005.

5. أدونيس. زمن الشعر. دار العودة، بيروت، 1972.

في المثقف اليوم