قضايا
بدر الفيومي: محمد عيّاد الطنطاوي.. الرائد الذي أسّس المعنى ثم غاب عن السرد
			ليس من المبالغة القول إنّ سيرة الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي تمثّل واحدة من تلك السير التي لا يُدرك معناها إلا بمفعولٍ رجعي؛ إذ لم تعش في وعي زمنها كما تستحق، ولم تُقرأ بعد زمنها كما ينبغي، حتى غدا الرجل ـ على فرط حضوره في البدايات ـ غائباً في نتائج النهايات. ولو أردنا توصيف حاله بمصطلحٍ فلسفي دقيق لقلنا: إنّ التاريخ استخدمه شرطَ إمكانٍ دون أن يمنحه اعتراف النتيجة. والظاهرة حين تُستخدم دون أن تُفهم، تتحوّل إلى مرآة لخلل الوعي الجمعي لا لنقص في صاحبها.
وُلد الطنطاوي سنة 1810م بمدينة طنطا في مصر، ونشأ في بيئةٍ أزهريةٍ مبكّرة، حفظ القرآن صغيراً، وتتلمذ على شيوخ الأزهر حتى تشرّب علوم العربية والفقه والمنطق، في زمنٍ كان يقف على العتبة الفاصلة بين الدولة المملوكية الراحلة ومشروع محمد علي التحديثي. فتكوّن وعيه في لحظةٍ انتقالية لم ينكسر فيها التقليد بعد ولم تكتمل شرعية التجديد، فحمل سمات العالم الكلاسيكي بعقلٍ مفتوحٍ على أسئلة الحداثة.
لكنّ الحدث الذي حوّل مساره من فقيهٍ محلّي إلى مفصلٍ حضاري لم يكن كتابًا ألّفه، بل استدعاءً معرفيًا نادرًا، حين طلبت روسيا من مصر إرسال عالمٍ يعلّم العربية في جامعاتها، في زمن كانت فيه الإمبراطورية تبحث عن الشرق لا لتغزوه بل لتفهمه. فدخل الطنطاوي بطرسبرغ لا بوصفه مبعوث الشرق التائق إلى الاعتراف، بل بوصفه المعلّم الذي تستدعيه قوّةٌ كبرى لتبني من علمه صورة الشرق في وعيها. وبهذا تحوّل من فردٍ في مؤسسة إلى حدثٍ إبستمولوجي يؤشّر إلى لحظة نقلت العرب من موقع المجهول إلى موقع المعلوم في المخيال الأوروبي.
ولم يكن حضوره في روسيا حضوراً فولكلوريًا بلباسٍ ولهجة، بل حضور العالم الذي يحمل منهج الأزهر ذاته إلى فضاءٍ أكاديمي أجنبي. وبذلك كسر الطنطاوي الحلقة التي كانت تجعل الغرب يقرأ الشرق بأدواته هو، فصار الروس يتلقّون العربية من لسان عالمٍ عربيٍ أصيل. ومن زاوية النقد ما بعد الكولونيالي، ومثّل هذا انتقالاً نوعياً، فالمستشرق لم يعد المصدر الوحيد للمعرفة عن الشرق، بل صار يتلقّاها من صاحبها الأول.
غير أنّ هذا الحدث المعرفي لم يترجم ـ في الذاكرة العربية ـ إلى وعيٍ مؤسسي، بل اختُزل في جملةٍ هامشية «أول من درّس العربية في روسيا». وكأنّنا أمام طرافةٍ تاريخية لا بنية تأسيس. وهذه المفارقة تكشف خللاً في وعينا قبل أن تكشف نقصاً في إرثه، فالعرب لم يؤسسوا علماً بذاته لظاهرة الاستعراب الروسي، ولم يقرؤوا تجربته بوصفها تأسيساً لتاريخٍ جديدٍ للمعرفة.
لقد رأى الطنطاوي في اللغة العربية أكثر من نحوٍ وصرف، رأى فيها أداة تكوين أمة، ولهذا لم يكن يعلّم قواعدها بقدر ما كان يعلّم حدودها الحضارية. وعندما ألّف كتابه تحفة الأذكيا في أخبار بلاد روسيا، لم يكتبه بعين الجغرافي أو الرحالة، بل بعين المصلح المقارن، الذي ينقل الخبر لا ليتسلى به القارئ، بل ليضع أمامه مرايا الفارق الحضاري، كيف تُدار الدولة بالعقل والنظام، فيما تكتفي الأمة الإسلامية بخطاب الوعظ والتكرار.
بهذا المعنى كان الطنطاوي واحداً من أوائل الذين أدخلوا إلى العقل العربي فكرة المقارنة الحضارية قبل أن تُنشأ أقسام الأنثروبولوجيا المقارنة بقرنٍ كامل. فالتجديد عنده لم يكن وعظًا داخليًا بل إيقاظًا بالألم الخارجي؛ أن ترى ما عند الآخر فتدرك نقصك أنت. ولذلك يمكن القول إنّ إصلاحه لم يكن إصلاح الخطاب، بل إصلاح المرآة.
ومع كل ذلك بقي الرجل مغمورًا، لأنّه عاش في العتبة، قبل أن تنشأ المدرسة الروسية في الاستعراب، وقبل أن يتبلور وعيٌ عربيٌ قادرٌ على تقويم عمله. فالتاريخ لا يعترف إلا بما يجد له حقلًا نظريًا جاهزًا، فإذا غاب الحقل، دُفنت الظاهرة وبقيت نتائجها. وقد كانت مأساة الطنطاوي أنّ الروس استفادوا من أثره المنهجي، بينما لم يدرك العرب أنّ أحد أبنائهم هو من وضع حجر الأساس.
وكان يمكن له أن يكون اسمًا مؤسِّسًا في الفكر العربي لو أنّ العقل العربي قرأ البدايات قراءةً تأويليةً لا خبرية. لكنّ وعينا التاريخي لا يعترف بالقيمة إلا بعد أن تتجسّد في الآخرين. وهنا مأساة الوعي العربي، أنّه يرى ذاته متأخرةً في مرايا الآخرين.
كتب الطنطاوي روسيا من داخلها، لا من وراء زجاج الاستشراق. لم يكن مبهورًا ولا مبهتًا؛ بل تساءل؛ كيف تُنتج أمةٌ غير مؤمنة نظامًا عقلانيًا متماسكًا، وتعجز أمة مؤمنة عن إنتاج النظام نفسه؟، وكان هذا السؤال عنده جرحًا إبستمولوجيًا، لا يهزّ العقيدة بل يفضح الفجوة بين الإيمان وبنيته العيانية. ولذلك تجاوز وصف روسيا بوصفها الآخر إلى جعلها مِخبرًا للمقارنة لا موضوعًا للتنديد أو الإعجاب.
ومع أنّه لم يقدّم مشروعًا نظريًا مكتملًا، فإنّه قدّم الشرط الضروري لكل مشروع لاحق؛ ففتح الباب ولم يسر فيه. وهذه هي طبيعة الروّاد في منطق التاريخ؛ يضعون المقدّمة ويغيبون قبل اكتمال النتيجة. فالقيمة في مثل هذه التجارب لا تُقاس بما بُني، بل بما جُعل ممكنًا أن يُبنى.
وتكمن القيمة الفلسفية لتجربته في كشفها العلاقة بين المعرفة والقوّة: فالإمبراطورية التي تمتلك القوّة كانت تملك الحساسية لطلب المعرفة، بينما الشرق الذي فقد القوّة فقد معها الحساسية للمعنى. ومن هنا نفهم كيف استدعته روسيا لا لتستعمره بل لتتعلّم منه، وكيف عجز العرب عن استدعاء أمثاله ليتعلّموا من أنفسهم.
وموت الطنطاوي في روسيا لم يكن خاتمة مأساةٍ شخصية، بل إشارة رمزية كثيفة، فالرجل الذي نقل الإسلام والعربية إلى داخل الإمبراطورية لم يعد إلى بلده، كأنّ التاريخ ختَم عليه أن يكون رسول معرفةٍ لا عابر تجربة. فدفنه هناك جعل جسده نفسه جسرًا نهائيًا بين عالمين، ظلّ معلقًا بين الاعتراف والنسيان، بين حضور الفعل وغياب الاسم.
وتُقدّم سيرته اليوم اختبارًا لثلاث قضايا مركزية في فكرنا العربي:
- القضية الأولى: كيف تُصنع صورة الآخر عنا، ومن يملك حق الإمداد الأول بمادتها؟.
- القضية الثانية: كيف يحافظ العالِم، وهو داخل سياق هيمنة، على نقاء تمثيله دون أن يتحوّل إلى أداة دعاية؟.
- القضية الثالثة: لماذا يفقد العرب أسماء روّادهم بينما يحتفظ الآخر بثمراتهم؟.
ففي الأولى نرى أنه كان المادة الأولى التي بُني عليها الاستعراب الروسي، وفي الثانية نلمس نزاهته في تمثيل الإسلام دون تملّقٍ أو تحريف، وفي الثالثة نواجه عجزنا المزمن عن قراءة القيمة في وقتها. فالعرب لم يحتفوا بالرجل لأن أثره لم يكن صاخبًا، بل كان وقائيًا، حيث منع التشوّه قبل وقوعه، وصان صورة الإسلام في لحظة التأسيس. وأثر المنع لا يُرى، ولهذا يُنسى.
ولذلك فإن إعادة كتابة سيرته اليوم ليست عملاً أرشيفياً، بل فعلاً استرداديًا للوعي. فاستعادة اسمه تعني إعادة ترتيب سلسلة الأسباب في تاريخ المعرفة بين الإسلام والغرب؛ إذ لم تدخل روسيا إلى الإسلام عبر مترجمين أو مبشّرين، بل عبر درسٍ أزهريٍ أصيل. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتصحيح موضع العرب في خريطة الوعي الكوني.
وقد مثّل الطنطاوي في عمق تجربته نزاهة الواسطة؛ فلم يجمّل الإسلام ليُرضي المضيف، ولم يُشوّه الغرب ليُرضي الجمهور، بل سلّم المعرفة كما هي، دون وساطة خطابٍ دعوي أو اعتذاري. وهذا الموقف، الذي قد يبدو بسيطًا، هو ما حمى صورة الإسلام من التحريف في لحظةٍ حاسمة. فلو كان أول من درّس العربية في روسيا أقلّ علمًا أو أضعف خُلُقًا، لانحرف مسار الاستعراب الروسي لعقودٍ طويلة.
ومن ثمّ فإنّ قيمته لا تُقاس بعدد طلابه ولا بانتشار كتبه، بل بقدر ما منع من تحريفٍ معرفيٍ مبكّر. فقد كان تأثيره سلبياً بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى القيمي، أي أنّه منع الانحراف ولم يُنشئ البناء. لكنّ هذا الدور الوقائي لا يقلّ عظمة عن البناء نفسه، بل قد يسبقه رتبة؛ لأنّه يحفظ إمكان المعرفة من الفساد قبل ظهورها.
وفي ضوء ذلك يصبح الطنطاوي نموذجاً لظاهرةٍ حضارية تتجاوز التاريخ الشخصي، ظاهرة الرائد الذي يعمل قبل أن يُدرك زمانه حاجته إليه، فيُنسى اسمه ويُخلّد أثره في غيره. فالرجل لم ينقل اللغة إلى روسيا فحسب، بل نقل الإسلام من موقع «الموضوع الموصوف» إلى موقع "المصدر المعلِّم"، وهو تحوّل في ترتيب المعرفة لم يُقدّر له أن يُقرأ في حينه.
فكتابة سيرته اليوم ليست احتفاءً بماضٍ منسي، بل محاولة لترميم فجوةٍ في وعينا، وللبرهنة على أن تخلفنا لم يكن يومًا نقصَ رجالٍ بل نقصَ وعيٍ بالرجال. وأنّ الأمم لا تُقاس بما تملك من العلماء، بل بما تملك من قدرةٍ على التعرف إليهم حين يحضرون.
فمحمد عيّاد الطنطاوي شاهدٌ دالّ على أن التاريخ لا يحاسب الأمم على من غاب عنها، بل على عجزها عن رؤيته وهو حاضرٌ فيها. حيث أسّس المعنى وغاب عن السرد، لأنّ السرد العربي لا يرى من الروّاد إلا من يصيحون، بينما يظلّ الصامتون الذين بنوا المعنى في الظلّ، مادةً لاكتشاف متأخّر واعتذارٍ متأخر عن تأخرنا نحن.
***
بقلم: د. بدر الفيومي






