أقلام ثقافية

صادق السامرائي: لوركا أين أنت!!

أين أنت؟

قمرٌ نادى حشود الزمن، واستغاث الجرح يشكو من وحوش البشر، جاءنا الليل بهمٍّ وبرعب، يصنع الأموات جند من فصيل الخطر، لا ترانا عند موت، لا نريد ما تريد، فالظلام صار ضوءً، والحياة دون ضوء، والضياء لا ضياء، فاطلق الرصاص وامضي، أنت مجهول، أنت معلوم، أنت موت جاء يسعى، نحو قوم بلباس القدر.

ألف أنت كل يوم، في بلاد النذر، ألف أنت كل ليل أخذوه، يدفعوه، يضربوه، يثقبوه، يطردوه، يأمروه، ثم يركض، قلبه قلب الطريد، روحه روح الوعيد، يطلقوا النار عليه، يصرخوا أنت القتيل، يستحموا بالدماء، يستعينوا بالغباء، يغفلوا كل نداء، يغضبوا رب السماء، ويطوفوا بين أبناء العناء، مثل رب يتمادى بالرياء، مثل جمع يتبارى بالشقاء، صارت الأموات من حسن العطاء، صارت الأموات من طقس النقاء، في بحيرات التراخي والهلاك، في مسارات التلاحي والفناء، أطفئوا الأنوار وامشوا بالعماء المنتظر.

لا رجاء، لا رجاء، قالها "لوركا"، بصوت الإمتحان، أخذوه ذات ليل، فرق الموت تصول، لا تريد مَن يقول، بكلام الحب شيئا، دينها دين الدماء، نهجها نهج البلاء، إستلذت بقتيل يجعل النور وباء، فرق الموت تصول، مثل شيطان المآسي، في جحيمات الضياع، تشرب الشر بكأس، من جلود وجماجم، تستبيح الحي ليلا، تحمل الشر كدين، وتصلي في جموع الخائفين، أيها الذئب الأمين، تأكل الحمل السجين، وتغني بعواءٍ فوق أشلاء الطعين.

أين أنت؟

تبحث الأيام عن بعض الحنين، تسأل الأقمار عن معنى الأنين، والزمان مثل حفار المآسي، في بطون الجائعين، والحياة دمعة تشكو الحزين، والنساء كسبايا الغائرين، وزعوا فيء المخازي، واحصدوا زرع النجاس، واطعموا الناس الوطين، خربوا عش الرجاء.

بشر صار كطين، مثل رقم، مثل شيء، مثل حمال السنين، لا حياة، بل تعازي ودموع وأنين، وانطلاق نحو ذباح الحنين، كل عشق يستحم بدماء العاشقين، كل حب يتعاطى الموت خمرا بأكف الضائعين، كل أحلام جدودي محض طين، كل أصوات الزمان لا تعين، فالكتاب لا كتاب، والسلام لا سلام، والزمان دون عقل، فجر المسعور أفعال الضغين، أطلق السجان أوجاع السجين، وبنى العصفور عشا فوق أشلاء البنات و البنين، طير شر صار خفاقا ويعلو في بلاد الآثمين، طير حب يستغيث من غراب يحتسي صبحا دماءً، وكثيرا من لحوم البائسين، للغراب كل صبح، وجبة فوق أجفان الرصيف، جثثا كم يشتهيها طائر الجرم المبين.

أين أنت؟

يصنع الموت عجيبا، ينحر الموت جنينا، صار للموت جنودا، وجموعا تحسب الموت كدين، تتغذى بالدماء والدموع، تتربى فوق أشلاء الضحايا، تحتسي خمر المنايا، لذةٌ تنمو وتغدو قوةً، يدمن القتال في أفعالها، دون ذنب، دون معنى، يخرجوا نحو المآسي، يزرعوا الخوف بقلب، يدفنوا كل مفيد، يزرعوا سم الأفاعي، في صدور الجائعين، يطعموا الناس دماءً، يسكبوا زيت التلاحي، فوق أهوال الصراع، ينثروا كل المعاصي، يلبسوها ثوب دين، يرفعوها لسماء، مالها فيها رجاء، كيف صار كل شيء، مثل ريح في هياج العاصفات، قالت الأحزان تبكي، ظالم هذا البشر، كافر هذا البشر، قد طغى فيها فسادَ وابتكر.

أين أنت؟

تحت أقدام الشجر، قرب ساق، ترتدي بعض الثرى، قرب نجم، بين أكوام الورى، تشرب الماء دماءً ودموعا، كيف للقلب يجوع لضياء، وشراب من رحيق المنتهى، كيف للروح يكون مثل طيرٍ في براثين الأذى، يأكل الطير طيورا، يقتل الإنسان أحلام البشر، يأكل الإنسان أسماك الظنون والرياء والترائي والنفاق في بحيرات الخطر، ويسير كملاك بين جمع، نحو حتف في مدارات القدر، برر الإنسان شأوا شائنا دوما ويبغي ما نظر، يسكب الخير بكأس من عظام وجلود عندما صاد البشر، يحسب الخير كشرٍ، يتداعي نحو همٍّ من ترابٍ، فيه بغضاء التلاحي وشرور المحتضر، بشر صار بباء غير ما يدعو السفر، ليس هذا، ليس ذاك فنداء الأرض قتال البشر، ووحوش الكون تستعدي البشر، إنه الخوف الرهيب، كوكب تاه بكون

رعبه رعب عجيب، يتلهى بدماء ودموع، وغذاء من لحوم في متاهات الخدر.

أين أنت؟

أنت أرض، أنت كون، أنت صوت هز أعماق الوتر، أنت قطر ذاب في قلب الشجر، أنت أحلام تنامت بين حبات المطر، أنت سيل من عروش الفيض يجري مثل شلال القدر، أنت محمول بقلب من ضياء الكون من نسل الظفر، أنت بحر فيه ماء، فيه أحياء تنادي يا إلهي

لسجين الماء لا يحلو المفر، أنت معجون بطين، أنت منثور بريح، أنت في خمر الوجود

فوق أكوان السهر، أنت سلاف الرحيق، أنت جذر يمنح الأشجار روحا، يطعم الأوراق أنقى ما تريد من طعام، ثم تربو لسموق، تشتهي ضوء القمر، أنت فنجان الأماني، أنت أوهام الرجاء، أنت صرخات الأمل، أنت أنت، دون أنت سوف تبقى كضياء، نورها نور النجوم، تتبارى كي تزيح ظلمة فاقت سوادا إستعر.

أين أنت؟

قاتل دون التراب، عاش مهموما يعاني من عذاب فاق أوجاع الجحيم، مات حيا حينما أردى وجودا لا يموت، قاتل مقتول قتل، غادر محكومَ غدر، جائر في بؤس جور، فالقتيل برصاص أو بسيف، قاتل يرغو بسوءٍ، مات فيها، ومضى يرثي زمانا، ووجودا بين أشلاء الضمير، يحسب الموت حياة، والحياة مثل موت أو تزيد، يشتهي نار السعير، يرتضي موتا عنيفا، كيف يخلو من عذاب فاق أهوال العذاب، كيف يشكو لزمان، قد تخطاه بجرح ينزف الروح صديدا، ويئن مثل مطعون الحنايا والهواء كل ما يدري يريد، ذلك الكف يلوم، أصبع يبكي حياة، كيف صار الكف حفار الوعيد، كيف صار الجسم قبرا لنفوس القاتلين، كيف أنت صرت مقبورا بجسم وتنادي مَن يعين، إنها حمراء تأتي، أنت مسجور بذات، والسجير أنت فيها، واللهيب والدخان، والرماد لن يكون، بل سعير سوف يبقى يتولاه السعير.

أين أنت؟

إنها حمى الشرور ومسيئات النفوس، تأمر الذات بسوءٍ، تشتهي طعم الحقير، تركب الأشجان تمضي بين قطعان الحمير، فترى فيها كلابا وذئابا وأسودا وصقورا ووحوشا، من جنون الوحش يحدوها الكثير، صرت حملا مأكولا بين أنياب الضحايا، فالوحوش لا وحوش بل تراها في صراع التائهين، يا حبيب الانتهاء، وملاذ الابتداء وصراط الاعتلاء، ومدير الفيض في كون الضياء، أنت لا تسعى إليها، إنها جاءت كطيف، ارتأت فيك مناها، ثم غابت، ذلك الوحش يراها، قد سعت نحو عُلاها، ما لها ميناء حب، ما لها في البحر شأن، فتراها قد تدانت

من عيون الوجد أو فوق ثراها.

أين أنت؟

حالمٌ قبل الصباح بليالٍ من نجوم تائهاتٍ في مجرات الخراب، ضوؤها ضوء حزين، نورها دمع هطيل، لونها لون الأماني، في بلاد من مياه ودماء ودموع، يشتهيها النفط كي يغلي السعير، يشرب الأشلاء بئر ينفث الأوجاع بترولا ونارا، إن أنف الأرض بئر يحتسي الناس ويلقي من عصير الناس أنواع الوقود، نحن نفط، نحن طين، وبنا الأرض تدور، دون نفط لا تدور، دون موت لا تدور دون قتل لا تدور، وكذا نحن ندور في مدارات الثبور، نستعين في خطانا بالمعاني والنذور، نحسب سفك الدماء مثل قربان السرور، كلنا وهم يطوف في حجيرات الجهول، علمنا علم قليل، جهلنا جهل وفير، رأينا رأي صغير، مالنا بد ولكن هكذا تمضي الحياة، والجراح مثل أبواب الضياء، الدماء لونها لون المياه، والسماء ما بدت فيها نجوم، صار مقتول الطغاة نجمة ألغت نجوما لامعات بالفضاء، فغدا الليل صباحا دون فجر، ألغت الأحقاد أطياف الوفاء

فامطري أجساد خلق ماء روح فوق رمل اللاهبات بسخاء، غابت الأجسام في جحر التناهي ومضى صوت الحياة، يتغنى بعطاء الأنبياء، أزلي، أبدي، رغم أوجاع البرايا سوف يبقى

شعلة فيها رجاء!!

***

***

د. صادق السامرائي

.......................

*هذه الكلمات مكتوبة بتأريخ 18\10\2006 في المكان الذي يُذكر أن الشاعر الإسباني لوركا قد قتلوه فيه، وما بين الأشجار التي يُقال ربما قد دفن قربها، وعند شجرةٍ شهدت ما فعله الجناة بصوت الحب والحرية والحياة، وقد ذكرني بها أخ عزيز وأوتار عوده تسامرنا، وطلب مني إعادة نشرها!!

في المثقف اليوم