أقلام ثقافية

أكرم عثمان: الصدى الداخلي الذي يسكنك

يقال إن الصدى انعكاس لما نهمس وننطق به، يرد إلينا بما تحدثنا به أنفسنا ونقوله، وقد يعلو أثره ويقوى بعلو الصوت ووضوح النبرة. لكن ماذا عن ذلك الصوت الذي لا يسمعه أحد غيرنا؟ الصوت الكامن في أعماقنا، الذي يحاورنا ونحاوره، ويعيش فينا ويتنفس من هوائنا، وينتنسم من عبيرنا ويتشرب مشاعرنا وأفكارنا.

ذلك الصوت الداخلي هو الصدى الحقيقي لما نفكر به وما نشعر به في دواخلنا. وهو على الدوام رفيقنا في رحلة الحياة بحلوها ومرها، يوجهنا أو يخذلنا، يدفعنا للأمام أو يثقل خطواتنا للخلف.

الإنسان مخير بين أن يجعل صوته الداخلي حراً، واثقاً، إيجابياً، يتغذى على قيمه ويستمد طاقته من همته ونشاطه؛ أو أن يتركه ضعيفاً ساكناً، لا يعرف سوى بث الإحباط واليأس. الصوت الإيجابي يحول الحلم إلى هدف، والهدف إلى حقيقة، ويختصر المسافات، ويرى في نقص المهارات فرصة للتعلم والنمو. أما الصوت السلبي فيحول العوائق إلى جدران، ويجعل من كل محاولة بداية للفشل، حتى تذبل طاقته وتخور قواه، فيتحول إلى عبء على نفسه وعلى من حوله.

تجارب عملية من العمل والحياة

في بيئات العمل، نرى أثر الصوت الداخلي بوضوح. في إحدى الشركات، كان هناك موظفان التحقا في نفس الوقت معاً. الأول واجه التحديات بنظرة إيجابية، واعتبر كل خطأ أو خطوة يخطوها فرصة للنمو والتعلم، وطلب الملاحظات لتطوير نفسه والإرتقاء بها. خلال عامين، تمت ترقيته إلى منصب قيادي لأنه كان يرى في المشكلات مهام قابلة للحل والنهوض به. أما الثاني، فكان يفسر أي توجيه على أنه انتقاد وتدمير لشخصيته ومهنته، ويقابل التحديات بالعناد والتأجيل أو الرفض، ويشعر دوماً بالاضطهاد وأنه ضحية من يتعاملون معه، فبقي في مكانه جامداً كجمود الصخر دون تقدم أو تطور.

وفي الحياة الشخصية والاجتماعية، قد نجد أمثلة لأشخاص فقدوا مصدر رزقهم فجأة وتعرضوا للظلم والجور. فالبعض استسلم لشعور العجز والنقص في داخله، بينما اختار آخرون أن يستمعوا لصوتهم الداخلي الإيجابي، فنهضوا من جديد وفضوا الغبار من عليهم، ينظرون للأمام دون أن يتحسروا أو يحبطوا مما حصل لهم، فبدأوا أعمال بسيطة لو رأها المرء لاستخف بها وأدار ظهره لها، تطور وضعهم وعملهم فساروا في التخطيط لمشاريع صغيرة وتعلموا مهارات جديدة تنفعهم في أعمالهم، فتحولت الأزمة إلى أمل وضوء مشرق ونقطة انطلاق نحو مسار أفضل.

حتى في مجال ممارسة الألعاب الرياضية، يلعب الصوت الداخلي دوراً حاسماً في الفوز والتتويج. فاللاعب الذي يركز على الفوز ويحافظ على تحفيز نفسه بكلمات إيجابية، ينال ما يفكر به وتهمس له كلماته، حتى لو تأخرت نتائجه، بصبره وجهده واستمرارية سعيه وكده، ينال فرصة أكبر للعودة وتحقيق الانتصار الذي يحلم به واقعاً مملوساً، مقارنة بمن يترك الإحباط واليأس والشعور بالفشل والتراجع يتسلل لنفسيته فيدمر ما بقي منها ويفتت قواها وقوتها.

الخلاصة

الصوت الداخلي ليس فكرة عابرة أو جامحة، بل هو محرك أو مثبط لكل قرار نتخذه، وأحد العوامل الخفية التي تحدد مسار حياتنا. صيانته وتغذيته بما هو نافع ضرورة ومنطلق مهم لا رفاهية أو تضييع للأوقات. اجعل صوتك الداخلي ضوءاً ونبراساً يعلو بكل ما تملكه من طاقات متدفقة تسهم في جلب النفع والخير لك، ويحمل في نبراته بناء الأمل والتفاؤل، ويزرع فيك الإصرار والعزيمة. فالحياة لها رجالها ونساؤها الذين يمضون بصوتهم الجياش، يتركون صدى وبصمة وأثرًاً لا يزول.

***

د. أكرم عثمان

 14/8/2025

في المثقف اليوم