قراءات نقدية
عقيل منقوش: الاغتراب في "هل ينتهي الكلام؟" لخالد الحلِّي

ونحن ننتهي من قراءة المجموعة الشعرية الجديدة "هل ينتهي الكلام؟" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العراقيّة عام 2025 للشاعر العراقي خالد الحلِّي المقيم في أستراليا، يتجلى أمامنا بوضوح ان الشاعر يشتغل في أغلب قصائدها التسع والسبعين على ثيمة واحدة، ألا وهي خلخلة اليقين عبر سؤال الشعر المتشكّك، والذي أطلق عليه الشاعر بالكلام الذي لا ينتهي عبر تساؤل بالأداة الاستفهامية هل؟
انتهاء الكلام يعني السكوت ومن ثم الموت، والتسليم للأقدار الخفيّة التي تحرّك الموجودات بعلاقاتها المختلفة المتشابكة التي لا يقبل بها الشاعر المشاكس بطبيعته.
تبدأ قصيدة خالد الحلي بمدخل بسيط، لحالة إنسانيّة تعبيرية واضحة من سلوكيات الحياة لتنتهي بسؤال فلسفي معقّد يبحث عن جواب شاف، يغيب أغلب الأحيان في القصائد التي تكون نهاياتها حزينة، فيها من الخسارة أكثر من الانتصار الذي تسعى له الكتابة بعناصرها الجمالية التي تزعم امتلاكها لأدوات التغيير المعرفيّة، ربما لأن الكتابة التي يؤسس لها طويلاً عبر أشعاره هي نوع من التراجيديا الشخصيّة التي أصابته وأصابت بيئته وعالمه، وجعلته يسعى إلى اعادة ترميمها عبر سرديّة شعريّة عاطفية، تكون أناه حاضرة فيها تحاور المرأة المفترضة والحبيبة البعيدة في حقب حياته المختلفة، والتي يكشف من خلالها عن حيوات متعددة لم تكتمل، بل سرعان ما تنطفيء، كلّما وصلت إلى توهجاتها، كما في قصيدته التي تحمل عنوان: "أيامٌ يسربلها الغبار"، والتي يقول فيها:
حِينَ يلُمُّ اللّيلُ بقاياهُ،
ويرمي فوقَ رمادِ الأيّامْ
يوماً آخرَ من أيّامِ حياتي
تَتَمَلْمَلُ باكيةً في بئرٍ مهجورْ
سَنَواتٌ ودُهورْ
تَصْحُو، وتنامْ
تتساءلُ في اليقظةِ
عَنْ أعوامٍ تختزلُ الأحلامْ
تتساءلُ في النومِ،
عَنْ الفجوةِ بين الواقعِ والأوهامْ
عَنْ مقبرةٍ لا تُدفنُ فيها إلا الأزهارْ
عَنْ ألغازٍ يغزِلُها الحاضرُ
ليلاً ونهارْ
عَنْ أسرارٍ يَكْتُمُها الماضي
مُنْذُ عُصورْ
وتقولُ بقلبٍ مَكْسُورْ
يؤلمني أنْ تتراكمَ أيّامي القتلى
ما زلت أشيِّعُ كلّ صباحٍ يوماً
الأيّامُ تضيقْ
لَمْ تتركْ بُشْرى لحبيبٍ
أو لصَدِيقْ
هَلْ مِنْ معجزةٍ
تغدو فيها الأيّامُ شهورْ
تتدفق خيراً وعطورْ
هَلْ مِنْ زمنٍ
لا يَكْتُمُ لغزاً أو أسْرارْ ؟
كلمة يسربل في المعجم العربي تعني يلبس" السربال"، وهو ما يغطي الجسم من ثياب أو درع ونحوهما. وسربال الشاعر هنا، هو الغبار الذي يغطي أيامه دليلاً على توقفها وعدم حركتها، ربما لأنها تتشابه بعدم فاعليتها وجدواها، إذ يرى إن المأساة الخفيّة التي تغلفها، تجعلها تضمحل وتتلاشى، حاملة معها أسرارها وألغازها، دون أن تفصح عن شيء يجعل الشاعر يصل إلى جوهرها الفعلي باعتبارها صيرورة حياتية، يستطيع أن يبتهج بها حدّ أن لا يفرط بها أو يسعى لدفنها وكأنها جثث تتراكم على بعضها، وهذه ليست عدميّة سوداويّة تدّل على يأس عميق من جدوى الوجود والعيش فيه، بل احتجاج كبير على "مقبرة لا تدفن فيها إلا الأزهار" كما يصفها الشاعر في هذا المقطع من القصيدة المذكورة أعلاه،
إن حساسيته المفرطة تجاه الواقع المعاش كشاعر تجعله لا يفرق بين أيامه التي شاءت لها بوصلة القدر أن تنام في مكان يتكرّر برتابته الخالية تماما من التحفيز الذهني، رغم أن روحه تواقة للخلق الجمالي الذي يملك أدواته بكفاءة عالية، لكن الصدمة تولّد الاحباط الذي يتمدّد بغرزه في الجسد بطيئا مثل سكين تقطع العظم لتصل إلى العمق لتعلن النهاية، وهذه القصيدة الحزينة المتسائلة هي نموذجٌ لا يختلف عن باقي القصائد التي ترصد حالات مشابهة لها، تؤشر لعمق القطيعة بين الكائن والوجود والذي يحاول الشاعر فيها أن يجد معنى واضحًا أو خفيًّا لهذا الخراب الذي لا يتوقّف.
لكن في قصيدة مختلفة بعنوان "دع سوانا يسألون"، نجد الشاعر يقول:
كَمْ سَألنا؟
كَمْ سَنَسْألْ؟
دونَ أنْ يأتي جوابْ
جلُّ ما راودنا مِنْ أسْئلةْ
ظلَّ مُهْمَلْ
خلّفَتْهُ القافلةْ
هَلْ سَنَبقى نتأمّلْ
سارِحِينْ
في ضَبابِ الإحتمالْ
غارِقِينْ
نتحرّى عَنْ نُجومٍ آفلةْ
عَنْ سِنينْ
هَرَبتْ منّا،
وما عُدْنا نراها
عَنْ زمانٍ مُبهَمٍ سوفَ يجيءْ
قُلتِ لي، والحزنُ يَنْهَلْ
مِنْ صدى صَوْتِكِ
أنّاتِ عذابْ
هَلْ سنبقى نحنُ نَسْألْ
وكلانا
لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الجوابْ
بعدَ أعوامِ اِرتِقابٍ وعذابْ
كَمْ سَألنا؟
كَمْ سَنَسْألْ؟
هَلْ سنبقى وحدنا
سائلينْ
دَعْ سِوانا
يَسْألونْ
معنا
علّهمْ لا يَيْأسونْ
مِثْلنَا
في هذه القصيدة يعلن الشاعر عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التي يسعى إليها بسؤاله الدائم، ليس لأنه غير مؤهل لمعرفتها، بل بقبول الواقع الظاهري للأشياء، والتآلف معها، ليس وحده فقط، بل مع المرأة القرينة التي يحاول أن يجعل منها مرآة عاكسة لذاته التي يخلق حوارا دائمًا معها، ولأول مرّة يستدعي تدخل الآخر لمقاسمته السؤال بعد أن أصابه اليأس التام.
إن الاغتراب الذي يعاني منه الشاعر في هذا العالم، ليس ترفًا معرفيًا أو ترفعًا برجوازيًا، بل إلتصاق كبير بالطبيعة وعدم القبول بمغادرتها، إنها الفطرة الأولى التي تعجز كل العلوم الحديثة أن تنزعها منه، بكل تمظهراتها العلميّة وحداثتها التكنولوجية.
خالد الحلي شاعر عراقي ظل وفيًا لقصيدته الموزونة التي تدّل عليه وحده، ببساطتها وخفة مفرداتها، بعاطفيتها وابتعادها عن التقليد والتعقيد. منجزه الإبداعي الشعري بدأ في وقت مبكر من عمره، ولا غرابة، في بلده العراق، بلد الشعر حيث الكبار السياب ونازك والبياتي وسعدي يوسف وآخرون.
***
عقيل منقوش