أقلام ثقافية
جمال العتابي: وليد جمعة.. شاعر القصيدة المخالفة

يجيء من العدم، ترميه القرى الصغيرة إلى المدن الكبيرة، والمدن الكبيرة إلى لغزها السري، ويتحدان في العلاقة المستحيلة، يستقر أخيراً في المدينة السرية المتشظية، يدخل في تجاويفها الليلية، باحثاً عن مأوى لجسده المشروخ. لقد كانت مدينة، أصبحت الآن شبحاً، ماضياً، ماضياً مبتلاً، وعلى جسدها وخصرها الأسمر، يجري نهران، لم تتعب المدينة بعد من الغرباء، ولم يتعب الغرباء بعد منها.
هذا الكائن الذي يدعى (وليد جمعة) لم يكن غريباً عنها، الفقير المثقل بالرغبة الشبقية وبالأيام الماضية والآتية، انه هنا في المدينة في ركن من أركانها، يزرع القلق مثل قمح، يردد بصوت مرتفع وهم يعبرون الشارع المذهب بالفتيات:
«طالبوني بقصيدة، ما الذي نكتبه عن دوخة الناس، اقترحت الناسَ، من منهم تريد؟ وعلى أي القوانين تشيد كلمات، وتسوي عالماً من كلمات.
يكتب عن نفسه وعنّا، عن العلاقات الواضحة والغامضة، عن المرأة المشتهاة في الخيال، وعن الليل، وعن النساء الليليات وعن الرجال النهاريين، عن الأصدقاء والمعارف، عن حبه القديم وحبه الجديد، عن الغائبين، الطارئين والمستقرين في ذاكرته، شرب كأساً، كأسين، ثلاث كؤوس، رأى المدينة، هي لعنة يومية، أما آن أن أفارقها؟ وفارقها! هذا الكائن الغريب الاستثنائي.
هو الكائن قادم، ساق تسابق ساقا، ترنّح مكشوف من فعل البارحة، الأزقة الضيقة جد متعبة صعوداً وهبوطاً، لا أحد في المدينة، إنه إله المدينة، قدّيسها، صعلوكها، ضمير المدينة. كل أبوابها مفتوحة له، كل الحانات، المقاهي والمطاعم، هكذا كان، لقد اختزن المدينة في ذاكرته ووضعها على الورق، عنف قاس لطفولة مشروخة حتى العظم، عنف يتجدد في الشيخوخة المقبلة، وفي المرض الذي داهمه مبكراً.
لم لا؟ يريد أن يكوّن نفسه، لم لا؟ لكن لهذه المدينة نظاماً آخر، لماذا يصر على أن يسير في طريق الاختلاف؟ لا يريدونه نموذجاً ولا يريدونه بناءً، يضحكون في وجهه ويتلاسنون في غيابه، لكنهم يحبون استثناءه، وخروجه عن نظام المدينة، وعندما استوى في جلسته الفوضوية، كانت الأيام الحزينة فوق جفنيه.
نعم، لهذه المدينة بؤر متعددة، قال ذلك وكتب ذلك، بؤر سرية وغامضة ومكشوفة، بؤر تفضي إلى متاهات ومدارات متشابكة، بؤرة للنسيان وللغياب الكلي، للضياع الجميل، والتشرد الجميل، من تختار يا وليد؟ تمسّك في بؤرة الجرح اليومي العنيد، كانت المدينة تتعملق من حوله، من أنت؟ لماذا تقفلين في وجهي أبوابك؟ عشت وشفت، وها أنا استرجع ذاكرتي وأنفي الموشومين.
كان يمكن لوليد جمعة أن يكون مجرد موظف عراقي عابر، يمضي نهاراته بملل في مكاتب دائرة الضمان الاجتماعي، ويمحو أيامه بالروتين الذي يشبه الموت المؤجل. لكنه لم يكن كذلك. كان في قلبه يخفي جمرة الشعر، والسخط، والسخرية، والعناد المكشوف الذي لا يحتاج إلى منصة أو جائزة أو تصفيق.
لم يكن وليد خارج السلطة فقط، بل خارج «مشروع الشعر الرسمي» أيضا، يكتب بنبرة تسخر من كل شيء، كان يكفي أن أصدقاءه يستمعون إليه، وهو يتهكم على زعيم حزب، أو وزير، سيان عنده، للثقافة أو الداخلية، أو يلعن بلداً يشبه معسكراً دائماً، يقوده حزب شمولي، أو يروي نكتة عن شاعر «منبطح»، كان رجلاً كريماً في السخرية، كرماً يشبه كرمه في الصداقة، وتقاسم الخبز، في نهاية كل شهر وحين يستلم راتبه المتواضع يجتمع «صعاليك» مقهى إبراهيم ـ كان يتجنب تسميتها: مقهى المعقدين ـ المشهد يكشف عن جوهر وليد الإنساني، الأصدقاء ينتظرون تلك اللحظة بشهيّة ولهفة، مطعم نزار القريب من المقهى، يتحول إلى طاولة بعدة أمتار، كان سعيداً لا يتردد لحظة واحدة في دفع حساب الجميع. كمن يعرف أن هذا المشهد العابر هو كل ما يمكن إنقاذه من الحياة المهانة.
وليد رجل مقامر، مواظب على حضور رهانات سباق الخيل، لا يحسب للمال حساباً، الفلوس ترمى على الطاولة. الحياة عابرة، بل رهاناً دائماً، يخسر ويضحك، يربح ولا يطمئن، كأن كل شيء مؤقت.. حتى نفسه. هو، ليس من طينة الشعراء الذين يطلبون المجد، بل من طينة الذين يستهزئون به، يكره التصفيق، كتب شعراً شتم فيه الظالم والظلم، ينفجر حين تضيق عليه البلاد، ويغلق فيها السياسيون نوافذ الكلام في بلاد الزنزانات والأناشيد العسكرية. كان شاعر شظايا ساخراً، وخصماً للنظام، خصومة تحتقر السجّان، والمنبر، والمهرجانات، والمثقف الذي يتحول إلى بوق، وليد حين يصعد المنصة يقول ما يجب ألا يقال. في شعره لا أثر لبطولة مفتعلة، ولا مجد فارغ، بل هناك إنسان يبكي من دون دموع، لأن البكاء ترف لا يستحقه المنفي:
في الغروب النحيف/ رغم كل البلايا/ أراه من المستحيل عليّ/ من المستحيل تماماً/ كراهية (هذا) العراق.
ديوانه «الغروب النحيف» ليس نصاً، بل أثر، وصيته الأخيرة التي لم يتركها لأحد، ليس توثيقاً لتجربة شاعر، بل وثيقة شاعر قاوم كي يودع كل شيء: الوطن، الأصدقاء، اللغة، حتى نفسه.
هيّن فقر الأناشيد وزهو الارتزاق/ هيّن أن يختفي أنبل ما باح به للكون/ وجدان العراق/ هيّن موت العراق
سخرية وليد لا من أجل التهكم، بل طريقته في الإدانة، يسخر من الشعراء الذين ركعوا للسلطة، أي سلطة، لم يكن ساخطاً لأنه ضحية، بل كان ساخطا لأنه يرى ما لا يراه غيره. كان شاعراً متمرداً، ليس لأن التمرد موضة، بل لأنه لم يكن قادراً على التواطؤ. يعرف أن الخسارة حتمية، لكن الرهان على الشعر، على الحرية، على الضحك، هو الفوز الحقيقي. اختار وليد جمعة أن يودّع «الغروب النحيف» بدخول أخير إلى مقهى إبراهيم (مقهى المعقدين)، ذلك المكان كان مشهده الأكثر صدقاً وحضوراً، هنا في الأبجدية الأخيرة للديوان يكتب وليد:
في عام 1987 فسخ البعثيون عقد الزواج مع الشيوعيين، فعادوا إلى المقهى، ثم سرعان ما اختفوا عن المقهى، فرّ من فرّ، وتعهّد من تعهّد، أغلقت جريدة «طريق الشعب»، لكن جريدة «الفكر الجديد» استمرت بالصدور، بقي فيها من مثقفي الحزب اثنان، محمد كريم فتح الله، وسلوى زكو، وبقيت مقهى إبراهيم.
لي كل الشرف أن أعلن لأول مرة، ان الأعداد الأخيرة من «الفكر الجديد» قد تمّ تحريره من قبل زبائن المقهى، بادر المثقفون على تشكيل هيئة تحرير عاجلة تعهدت بكتابة المواد الصحافية والثقافية، من دون أدنى رقابة حزبية أو سلطوية، كانت أكثر المواد جرأة في قمة الهجمة الفاشية ضد الأصوات الحرّة، فأغلقت الجريدة:
مدنٌ جبتها/ مدنٌ بالمئات/ لو تخيّرت أبهجها/ ولوّنتها مثل لعابة/ وأجريت فيها نسيم السكينة/ لم تكن حلوةٌ وحبابةٌ/ كضجّة دربونة في هذيج المدينة.
توفي وليد في منفاه الدنماركي في 20 سبتمبر/أيلول 2015، لم ينشر سوى قصائد قليلة في حياته. صدر له عن دار الجمل ديوانه الوحيد «الغروب النحيف» بعد وفاته بأيام.
***
جمال العتّابي