أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: دروس من عمانوئيل كانط حول أزمات عصرنا الحالي

قبل عقد من الزمن، تبنّت أكثرية الامم أهداف الامم المتحدة في التنمية المستدامة، وتعهدت بتحقيق ذلك في عام 2030 والوصول الى مستوى صفر من الإنبعاثات الحرارية العالمية بحلول عام 2050. وبعد عشر سنوات، أصبح المزاج كئيبا والمشاعر بشأن تلك الطموحات محاطة بالشكوك. ومع صعود الاوتوقراط وتأثير مليارديرات التكنلوجيا التحررية على السياسة، بدت أهدافا مثل تنمية للجميع ومناخ خال من الإنبعاثات الحرارية بقايا من الماضي.

الولايات المتحدة الامريكية – القوة الأكبر في العالم، هي في قلب هذا التحوّل. في عام 1776، أعلنت الولايات المتحدة بيان الاستقلال وتأسست على أهداف الحياة، الحرية، السعادة. اليوم، أصبح واضحا وبشكل متزايد عدم احترامها للحياة، وهجومها التشريعي على الحريات المدنية وخلق حالة من عدم الإستقرار العالمي بفعل التعريفات الكمركية الاخيرة.

وسط كل هذا، من المهم ان نتذكر اننا لسنا الجيل الاول الذي يواجه أوقاتا مظلمة. فلسفة عمانوئيل كانط يمكن ان تقدم لنا رؤىً ثمينة لمواجهة تحديات اليوم.

رؤية كانط للتقدم الممكن

في عام 1776 وهي نفس السنة التي تأسست بها الولايات المتحدة، كان كانط يعد فلسفته النقدية العملاقة ويحاضر حول الحرية والانثربولوجيا البرجماتية، كل ذلك كان في ظل الحكم الملكي المطلق لبروسيا. في ذلك الوقت، كانت بروسيا تستعمل قوتها العسكرية لتوسيع حدودها وفرض استعمار داخلي على الأرض والشعوب.

في ظل هذا الوضع، لاحظ كانط تناقضات الطبيعة البشرية – الناس الذين فعلوا للآخرين كل من الجيد والقبيح، القاسي والجميل – حيث وصف الانسانية بـ "أخشاب ملتوية" (الناس بطبعهم يميلون للشر والعنف يصبح حتميا، هو يربط بين افكار الماضي والكوارث الاجتماعية والسياسية الحالية). مع ذلك أصر كانط على رؤية هذه "الأخشاب الملتوية" من خلال عدسة الحرية. في جوهر فلسفة كانط العالمية، رؤية المستقبل المرتكزة على الحرية كانت تجسيد لفكرة ان يعيش كل الناس في كرامة. انها ركزت على الاستقلالية كمقدرة على التشريع الذاتي. الحرية كانت بمثابة نجم مرشد لما يُسمى اليوم "التنبؤ العكسي" backcasting (1) او التفكير رجوعا انطلاقاً من مستقبل مرغوب لتحديد مسارات ممكنة باتجاه الهدف.

في هذه الروح، لاحظ كانط صعود الأسواق التنافسية التي مجدت الأنانية والجشع، وجادل ان القانون والتعاون الدولي – الذي سمّاه اتحاد الجمهوريات – يمكن ان يحوّل العداء الى ينابيع للتقدم. بكلمة اخرى، هو حلّل الفتنة والصراع في زمانه كعلامات لتقدّم ممكن.

حرية العقل العام كانت حاسمة لتشخيص مثل هذه الإمكانات: الناس يفكرون لأنفسهم ويساهمون بالنقاش العام.

التفكير البعيد المدى حول الحرية

ماذا يمكن ان نتعلم من كانط حول مواجهة الأزمات المتعددة لعالم اليوم؟

اولاً: انه ركز على الحرية من منظور بعيد المدى. حروب التجارة الحالية سوف تقلل النمو الاقتصادي، لكنها ربما ايضا تحقق تقدما في إعادة الأقلمة للاقتصادات – وهي الفكرة التي نالت تأييدا مستمرا من اقتصاديي ما بعد النمو الباحثين عن ازدهار مستدام. لكن الانتاج الاقليمي ليس جيدا بطبيعته، نحن نحتاج الى نقاش عام حول أي البضائع الأساسية، مثل الطعام – من الأفضل توفيرها اقليميا وبواسطة منْ وبأي مقدار من التعاون الدولي.

كوارث المناخ تحتاج خططا وليس اصلاحات

ثانيا: كانط يذكّرنا ان الحرية يجب متابعتها ضمن واقع كوكب مشترك ومحدود. تقلبات المناخ ليست مشكلة يمكن حلها بين يوم وليلة. الانبعاثات الحرارية لاتهتم بتهديدات ونوبات غضب الاوتوقراط. انها تحدّي عالمي معقد يتطلب عمليات تخطيط طويلة الأمد.

هناك علامات تقدم في هذا الشأن: في عام 2024، أبلغت المملكة المتحدة بان الانبعاثات الغازية هي في أدنى مستوى لها منذ عام 1872 بفضل التخطيط الطويل المدى. كندا، بعد قرارها في الخروج من بروتوكول كياتو عام 2011، أخيرا رأت ان الانبعاثات بدأت تنخفض في عام 2025 وجدّدت التزامها بأهداف التخطيط والمناخ العالمي . لكن هذا التقدم كان هشا. فوضى ترامب في التعريفات الكمركية يجب ان لا تقود السياسيين وصناع القرار لتفضيل اقتصاد قصير الأجل ومكاسب سياسية على ستراتيجيات المناخ الطويلة الأمد.

دعمْ رئيس الوزراء الكندي مارك كارني والقائد المحافظ بيير بويليفر لخطوط الأنابيب، مثلا، يتناقض مع الدليل بان التوسع في الوقود الاحفوري سوف يُبقي نفس المستوى من الانبعاثات.

انه ايضا يحوّل نقود عامة الناس بعيدا عن المصادر الرخيصة للطاقة المتجددة. مع الحرب التجارية واللااستقرار الاقتصادي، يُحتمل ان يؤدي التضخم الى زيادة تكاليف المعيشة. هذا سوف يضرب الاسر الفقيرة بقسوة بما يجعل هذه القضية ليست فقط بيئية وانما تتعلق بالعدالة الاجتماعية.

إعادة بناء الفضاء العام

ثالثا، بالنسبة لكانط، توقعات اسلوب الحياة الحالية ليست مرشدا لجوهر الحرية المستقبلية. وزير الخزانة الامريكي أعلن ان "البضائع الرخيصة ليست جزءاً من الحلم الامريكي". يمكننا فهم هذا كدليل على ان طموحات قيّمة لا يمكن تحقيقها عبر الاستهلاكية وانما بالدعوة لمزيد من جهود الاستدامة. وبينما يرغب المستهلكون المعاصرون ببذل جهود أكبر – مثل الروتين اليومي لممارسة الرياضة والجري – يمكن اطلاق طاقة مماثلة لتحقيق الاحلام الجماعية للتقدم وإنقاذ الكوكب؟ بالنسبة لكانط، حرية المستقبل تتطلب النظر وراء الفرد الى الطموح الجمعي. هذا يعتمد على الأهداف المشتركة التي يمكن تبنّيها من خلال الحكمة وبدعم من فضاء رأي عام نقدي وحيوي.

في زمان كانط، كان الفضاء العام يتكون اساسا من جمهورية الرسائل(2)، وهي شبكة أقامها المثقفون والكتّاب في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر منخرطين في نقاش مفتوح.

بالمقابل، اليوم نجري المزيد من الاتصالات على منصات التواصل الاجتماعي التي تفضل الصيغ القصيرة المدى وتثمن الغضب بدلا من التحليل، هذه المنصات يملكها عدد قليل من الشركات المصممة لمضاعفة الأرباح بدلا من نوعية المداولات العامة. لمواجهة هذه النزعة، نحتاج الى مقدمي أخبار مستقلين ومتنوعين إقليميا بالاضافة الى تواصل اجتماعي منفتح ولامركزي.

لكن فوق كل ذلك، وفي عصر الكوارث المناخية، والاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار الاقتصادي، يذكّرنا كانط بما أسماه "فن التفكير" او عقلية مرتكزة على الحرية والإمكانية وفق منظور طويل الأمد.

The conversation, May 2025

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) مصطلح التنبؤ العكسي صاغه لأول مرة جون روبنسون من جامعة واترلو عام 1990. هو يصف احدى الاستراتيجيات لعمل قرارات ناجحة في الحاضر لإنجاز هدف معين في المستقبل. في التنبؤ العكسي نبدأ بهدف محدد في الذهن ونخطط رجوعا لتحديد الافعال المطلوبه لإنجاز ذلك الهدف. التنبؤ العكسي backcasting هو عكس التنبؤ forecasting يأخذ المستقبل كنقطة بداية بدلا من الوضع الراهن الحالي. لكي نضمن اننا غير مقيدين بنماذج التفكير الحالي عند النظر نحو المستقبل، فان التنبؤ العكسي يستدعي تحولا في التركيز. اذا كنا نعتمد فقط على التفكير الحالي عند النظر الى الامام، فان منظورنا سيتشكل برؤى من الماضي. لكن هذه الرؤى لايمكن تطبيقها على المستقبل، وقد تكبح مقدرتنا على التخطيط الفعال. عبر تبنّي اتجاه التنبؤ العكسي، نستطيع تطوير ميثدولوجيا تقلل من تأثير هذه العوامل ووجهات النظر المقيدة. البرت اينشتاين ذكر مرة: انت لا تستطيع أبداً حل المشاكل بنفس طرق التفكير التي خلقتها.

(2) جمهورية الرسائل عبارة عن مجموعة متباعدة من المثقفين والمفكرين، برزت في اواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر في اوربا وامريكا. الجماعة عززت الاتصالات بين المفكرين في عصر التنوير. هذه الجماعة تجاوزت الحدود القومية للدول وشكلت اساسا لجمهورية ميتافيزيقية. ونظرا للقيود المجتمعية على المرأة انذاك، اقتصرت جمهورية الرسائل على الرجال فقط.

 

في المثقف اليوم