قراءات نقدية

آمال بوحرب: حين يخوننا الفينيق..عبثية المعنى في قصيدة "محكومٌ عُمري"

مقدمة: القصيدة كفضاء لمساءلة المعنى

في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات وتسقط الرموز من عليائها، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ جمالي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الأمل واليأس، المعنى وسقوطه.

إنّ قصيدة “محكومٌ عُمري” للشاعر جورج عازار تندرج في هذا المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك. قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانطفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

في هذا النص، تنهار رمزية الفينيق—رمز البعث والأسطورة—وتسقط فكرة الخلاص الشعري في وجه تجربة داخلية صريحة تنكر الخلود، وترى في الأمل كذبة كونية كبرى، تُصاغ فقط كي نُطيل لحظات البقاء أمام الهاوية.

فما هي الرؤية الفلسفية التي تُملي على الشاعر هذا الموقف من الرموز والأساطير؟

وكيف تُعيد القصيدة مساءلة علاقتنا بالذات، بالموت، وبالكتابة؟

وما وجوه التداخل بين الهمّ الوجودي والرمزي والنفسي والاجتماعي في بنيتها؟

تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه القراءة استنطاقها عبر مقاربة متعددة الأبعاد: فلسفية، رمزية، عبثية، نفسية، وأسطورية.

ظلال الذات في خراب المعنى

ليست القصيدة وصفًا للحزن، بل تجسيدًا لانهياره داخليًا. إنّها تجربة من التشظي بين صوتٍ يبحث عن معنى وصدى يردّد الفراغ.

حين يقول الشاعر إنّ الأمل مجرد “حقنة مورفين”، لا يُسقط فقط فكرة الخلاص، بل يجرّد اللغة من ادّعاء الإنقاذ. كأنّ الحرف هنا لم يعد وعدًا، بل اعترافًا بمرارة الهباء.

يتسرّب الرماد من بين الكلمات، لا ليخفي النار، بل ليكشف أنّها لم تشتعل أصلًا. هنا لا يحترق الفينيق… بل يتواطأ مع الخيبة.

لا أحد يأتي من جهة الأبد

في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على انتظار. الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.

الحنين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من وهم. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن حضن.

الهجرة هنا ليست حركة، بل حالة. غربةٌ لا تشبه المنفى، بل المنفى داخل الذات.

من رماد الأسطورة إلى فراغ الأسئلة

يتكئ الشاعر – في تهكمٍ رمزي – على “الفينيق”، فيكشف زيف بعثه. هذه الأسطورة التي طالما كانت معبراً نحو النور، تنقلب إلى قناع شاحب يغطي جثة الأمل.

لا تجدد في هذا الحطام، لا بداية تليق بنهاية مجروحة، لا ميلاد بعد الموت، فقط دورة متكررة من الخيبة.

من خلال هذا التمزّق الرمزي، تفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجودي عارٍ: هل كان البعث دومًا كذبة شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق الخرافة كي لا نموت قبل موعدنا؟

الذات كغريبٍ في مراياها

“تتبرأُ مني ذاتي”… عبارة واحدة تختصر انفصام الشاعر عن صورته. ليست الذات هنا بيتًا، بل صدًى مشوّشًا في أروقة غريبة.

ما يظهر ليس ما يعتمل. والشاعر – وإن كتب – لا يسكن اللغة، بل يحفر فيها مجازًا هاربًا من الانطفاء. لا هو ذاته، ولا هو الآخر. كأن كل تعرّف على الذات، يُفضي إلى غربة أعمق منها.

رؤى فلسفية تتقاطع بين العدم والمقاومة

تُطلّ القصيدة من شرفة أسئلةٍ قديمة/جديدة، تتقاطع فيها الفلسفة الوجودية، والعبثية الكاموية، والنقد الرمزي، دون أن تدّعي أنها تجيب.

- عند نيتشه، تنهار القيم عندما تُصاغ بوصفها أوهامًا مريحة. وهنا يرفض الشاعر رمزية الفينيق كما رفض نيتشه فكرة “العزاء” القيمي.

- وعند سارتر، يغدو الإنسان حراً، لكن هذه الحرية عبء، لأنه مطالب بخلق معناه. الشاعر في “محكومٌ عُمري” لا يجد بيتًا، لا في اللغة ولا في الزمن. إنه كائنٌ منفي من المعنى، مطالب بالكتابة داخل الصمت.

- أما كامو، فنجده بوضوح في الموقف الأخير: لا جدوى… ومع ذلك، نكتب. لا معنى… ومع ذلك، نواجه العدم بحرفٍ لا يصدأ.

مقاربات متعددة الأبعاد

1- المقاربة الوجودية:

يغدو النص بُعدًا وجوديًا مكثفًا، يستبطن قلق الإنسان أمام هشاشة العالم. الحياة هنا ليست سلسلة من الأحداث، بل وعيٌ دائم بمحدوديتها، وانعدام قدرتها على منحنا يقينًا.

2- المقاربة العبثية:

الأمل يُعالج كمخدر. فكرة البعث تسقط رمزيًا. الزمن بلا خطية، والأحلام “أشلاء”، والبيت يلفظ… في بنية كهذه، لا يبقى إلا العبث.

3- المقاربة النفسية:

الداخل متصدع. الروح في “طقوس عزاء”، والذات تعلن انفصالها عن ذاتها. إنها تجربة ما بعد الانهيار، حيث تصبح الكتابة بديلاً عن الفهم.

4- المقاربة الرمزية الأسطورية:

جلجاميش، الفينيق، الحمام… رموز تتحوّل إلى مرايا محطّمة. لم يعد الحمام سلامًا، بل غيابًا. لم يعد جلجاميش منتصرًا على الموت، بل ضائعًا في سؤالٍ لم يلقَ جوابًا.

الأسلوب الشعري: لغة التمزق والعمق

يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة “محكومٌ عُمري” مرآة لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوب مكثف ينسج بين الشعرية والفلسفية. يختار الشاعر لغةً متقطعة أحيانًا، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل “حقنة مورفين” و”عتْمة الداخل” و”بقايا قزم داكن السواد”، تعبيرًا عن فراغ يلف الروح وينسف الأمل.

القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطي تقليدي، بل تستخدم التكرار والتضاد بين الأمل واليأس، الغربة والانتماء، الحياة والموت، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصة متماسكة بل حالة تذبذب دائم.

وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استدعاءًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرار لا ينكسر على الكتابة رغم الخراب.

خاتمة: ضد النسيان… مع الذبول

القصيدة لا تحتفي بالنجاة، بل بالتسمية. لا تبشّر بخلاص، بل تُعلن عن مقاومة الهشاشة بالكلمة.

حين يخوننا الفينيق، لا يبقى لنا سوى الذكرى.

وحين يُجرّد الأمل من سلطته، تُولد الكتابة من رحم العدم، لا لتُنقذ، بل لتُبقينا شهودًا على سقوط الأساطير.

هكذا تتحوّل “محكومٌ عُمري” إلى شهادة شعرية في زمنٍ لم يعد يؤمن بالخلاص، لكنها رغم ذلك، تُصرّ على أن تقول: “لن أذبل”.

تحية للشاعر جورج عازار، وللفنان كميل يعقوب، على هذا التواطؤ العميق بين الشعر والتشكيل، بين جلجاميش الإنسان وقلق الإنسان المعاصر.

***

بقلم: د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة في الأنثروبولوجيا

30 جوان 2025

 

في المثقف اليوم