أقلام فكرية
نوزاد جمال: الإنسان كائن أسطوري وإن تطور كلیا

المدخل: غالبا ما تعتبر الأسطورة باللبنة الأولى للفكر الإنساني، لكنها تزخر بالخصوبة رغم بساطتها وبرائتها الجذابة. ولكونها ولیدة التماس مع الواقع والطبیعة، فانها تعكس خفایا الشعور واللاشعور معا. لذا یقتات الأنسان علی مر العصر منها معاني ودلالات حول ما كان، وما هو كائن وما یكون. فالسردیات الأسطوریة لیست ولیدة الماضي، بل ان الدول والنزعات الطائفیة والعرقیة والأیدولوجیة، او ماتسمی بنظریة المؤامرة تستند الی اساطیر وسردیات مفبركة.
لذا، اعتقد 'كاسیرر' في كتابه ' مقال عن الإنسان: مقدمة لفلسفة الثقافة الإنسانية '، بأن ' العالم الأسطوري يبدو عالمًا مصطنعًا، ذريعةً لشيء آخر'. ویقتبس رأي 'مالينوفسكي' بأن "كل أسطورة تمتلك كنواة أو حقيقة نهائية بعض الظواهر الطبيعية أو غيرها، منسوجة بشكل متقن في حكاية إلى حد يكاد أحيانًا يخفيها ويمحوها". أو كما یری 'فریزر' بأن "للأسطورة وجهان. فمن جهة، تُظهر لنا بنية مفاهيمية، ومن جهة أخرى، بنية إدراكية".
كذلك، تُعدّ الأسطورة والدين من بين جميع ظواهر الثقافة الإنسانية، أكثر عصيانًا على التحليل المنطقي المحض...إن كان هناك ما يميز الأسطورة، فهو كونها "بلا نسق ولا منطق". مع ذلك، یر كاسیرر أنه "لا توجد ظاهرة طبيعية ولا ظاهرة من ظواهر الحياة البشرية لا يمكن تفسيرها بشكل أسطوري ولا تستدعي مثل هذا التفسير".
I- المشهد المرعب للكون
عندما جابە الانسان الأحداث والتغیرات البیئیة والتحولات الطبیعیة والكونیة/ السمائیة، حاول الإحاطة بها وفهمها ضمن نسق فكري عالي بسیط. وذلك من خلال ربط النتائج بما تخیل لە كأسباب موضوعیة أو ذاتیة.
فالقلق الذي اغمر الانسان البدائي جراء الوصول الی اجوبة مقنعة وملموسة، أرغمه علی التفكر والتفلسف. لأن الدافع الذاتي للبحث عن الاجوبة ومعرفة مصیره في الحیاة وتحدید اسباب الموت والتباین بین الوجود والعدم، دفعە نحو تفسیر اسطوري وسردي لمجریات الامور.
ومن هنا، توجد علاقة متینة بین الاسطورة والفلسفة. فبنیة العلاقة، تتشكل في السؤال الوجودي للانسان البدائي ان صح التعبیر، حول الكون، الحیاة والموت، والخلود والسعادة والخ. لذا، اعتقد (باول رادین) بان الانسان البدائي بمثابة فیلسوف1.
فإذا أمعنا النظر في 'الكون' كمسرحا للاحداث، تبدو كمشهدا مرعبا لجریانات الطبیعیة وتحولاتها المستمرة. لذا فمنذ القدم، استقرت الظواهر في الفكر البشري وارغم هواجسە علی التعاطي مع الأمور وفهمه.
ولما كان الفهم محدودا، كان الخیال ثریا ومتجاوزا. لذا كان مستوی الوعي في فهم العلل والاسباب وراء الاحداث والتغیرات بدائیا، اناط الامر بالخیال السردي. ولأن الحاجة الماسة الی اجوبة مقنعة، كانت الهاجس المهیمن، صاحب الخیال القلق أيضا.
والاجوبة المكتسبة، كانت إما ملموسة وعینیة أو مجردة وعمومیة. فصعب علی العقل فهم الاجوبة المجردة اللاعینیة بدون تجسیدها علی هیئة حیوانات أو كائنات فائق القدرة وخارقة للطبیعة. فلذلك وجدت للأجوبة موطنا في الخیال وفي التفسیر الأسطوري سبیلا.
لكن العقل/التفكیر الذي سلك الطریق الملموس والأسلوب المیكانیكي- ان صح التعبیر-، ارغم الانسان علی التفلسف. لكون الفلسفة آلیة واعیة لمجابهة التغیر وفهما جذریا. لذا ادی الفهم الفلسفي الی التفلسف، اما الخیال الی التدین في شتی انواعه. لكن قوة التخیل للانسان البدائي، للقوی الماورائیة سعی الی تجسیدها في هیئات مرئیة 'طوطمیة'.
II- خصائص ووظائف الفكر الاسطوري:
لقد اعتبر 'اوغست كونت' الفكر الاسطوري أولی ارهاصات الفكر لانساني. لكن، اذا نظرنا الیها من خلال 'العودة الأبدیة' للأسطورة حتی في المجتعات المعاصرة، یمكننا إضافة ادوار للإسطورة في الحیاة.
علی الرغم من ان الباحث المشهور 'جوزیف كامبل' لخص دور الأسطورة في أربعة أمور: الوظيفة الصوفية- الميتافيزيقية- تلهم الفرد شعورا بالرهبة والامتنان تجاه غموض الكون. الوظيفة الكونية، تقدم صورة للكون من خلال ربط المعرفة المحلية والتجربة الفردية. الوظيفة الاجتماعية، تثبت معايير المجتمع وتدعمها وتطبعها في الفرد. وأخیرا، الوظيفة النفسية-التربوية- ترشد الفرد خلال مراحل حياته، ضمن سياق تلك الثقافة المجتمعیة. (كامبل قوة الاسطورة ٥٦).
لكننا، نضیف وظائف أخری لها:
- الوظیفة التعلیلیة، أو التعبیریة؛ تكمن في ارجاع الاحداث والتغیرات الی علة ما.
- الوظیفة الابداعیة التخیلیة: الخیال والتخیل لتجاوز حدود الواقع الملموس والطبیعي للحیاة.
- الوظیفة الترانسندتالیة؛ تجاوز لما هو واقع وكائن.
- الوظیفة الأونتولوجیة: لماذا الوجود وماهو، ومن اوجده.
- الوظیفة السردیة: تأریخ الاصول والازمنة عبر السرد اللازمني.
- الوظیفة الرمزیة؛ ترمز الی معضلات الحیاة كالبٶس، الموت، الجوع والخ...
- الوظیفة السلطویة؛ تبریر سلطة جماعة، أو ملك وسن القوانین الاخلاقیة باسمه.
- الوظیفة التذكیریة؛ التذكیر بأمور ومأل الاحداث او بمثابة الذاكرة الجمعية.
- الوظیفة السایكولوجیة: تجسید للخوف، القلق، العدم والحزن والأسی. او تعبیرا للفرح والمباهج وانبعاث الدهشة كرد فعل داخلي للانسان تجاه الخارج.
- الوظیفة الثقافیة: كیفیة التعاطي مع الآخر وتحدید هویة الغیریة (الامم والثقافات) والتي تطفو بین حین وآخر علی مسرح الاحداث المتمثلة في الحركات الشعبویة، الیمینة والدینیة المتطرفة.
- الوظیفة التفسیریة: مثلا فسر افلاطون حرب طروادة بالتفسیر المیتافیزیكي واخلاقي، لكي یوظفها في افكاره الفلسفیة أو كأسطورة الكهف والخ...
III- الفرق بین الیونان والشرق
الخلاص والنجاة من 'الدنیوي' من خلال التأویلات الاسطوریة لما یأتي مستقبلا، تخیل الآخرة تظهر في كافة الآساطیر تقریبا. لكن الیونان مثلا، لم یعتقدوا حرفیا بتلك الاساطیر كما یقول المفكر الفرنسي (بول فاین). بل تعاطوا معها كمنبع للذة والتمتع.
أما الأساطیر في الشرق فقد استخدم كالعلم والفن، ولكن لأغراض میتافیزیكیة، أخروية. أي لمطلب عملي، هو الخلاص ولأجل الوصول الی الاخرة، الحیاة الأبدیة مابعد الموت. في حین استخدمه الیونان لمطلب علمي ونظري بذاته .
لانبالغ اذا قلنا ان العقل الیوناني، رغب في الاسطورة بدافع التلذذ والمتعة والخیال في السردیات الاسطوریة. لأنها رأت فیها القوة التولیدیة المحركة للخیال والسرد وتجسیدا للعوالم الخفیة بلغة الرموز والاشارات. التخیل كمفاعل التمثیل والمحاكاة لعلاقة الانسان بالعالم والطبیعة.
فالأسطورة الیونانیة علی الرغم من انها تحتوي علی اشارات میتافیزیقیة لمعركة الآلهة، الا انها ترمز بشكل مباشر الی الانسان ولیس اله كما هو في الاساطیر الشرقیة.
فكانت غایة الأسطورة في السیاق الیوناني؛ تأسیس لعلاقة الانسان مع ذاته من خلالها، ولیس الوصول أو التوسل الی قوی خارقة خارج الطبیعة. وسمة أخری كتابة وتدوین الأساطیر حصل بالفعل. في حین أن النص الأسطوري في الشرق بقی شفویا متنقلا بین الشعوب.
IV- الخلاصة
الأسطورة، رحم الادیان والفلسفة والعلم والادب والفن أیضا. فانها تجسد الواقع/الطبیعة بلغة رمزیة. كما أنها اثرت في النص المسرحي والفلسفي والشعر الملحمي وحتی العلمي أیضا. كما أن النص الاسطوري عبارة عن وعاء ثمین، یقتات الفیلسوف منها وینهال من الرموز والخیالات الواسعة، لتأسیس نظریة فلسفیة.
فالرأي القائل بأن الاسطورة مجرد نتاج اوهام وتخیلات أولیة للبشریة في المراحل البدائیة، سطحي نوع ما. فعلی الرغم من أن التطور طرأ علی الحیاة المعاصرة، تطفو الأساطیر علی السطح وتظهر خبایا حیاة الانسان.
وهذا یعود الی حقیقة بسیطة: أن الانسان كائن اسطوري ومبتكر الاسطورة أیضا. فالاساطیر لم تنزل من السماء، إنما معراج الفكر الأنساني من الارض الی ماوراء الطبیعن بأشكال مختلفة.
وعلی الرغم من ان التعبیر والترتیب الزمني للمرویات الأسطوریە، لا یشكل التأریخ الفعلي للعصور، الا انها تدل وتعكس حقیقة العقلیة والحالة النفسیة وخفایا النظم الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة للمجتعات عبر التاریخ.
فالانسان المعاصر ابتكر العدید من الاساطیر عن الحیاة والموت، اوحی الفن والموسیقی والادب. اذن، الاسطورة موروث ثقافي وحضاري لكل المجتمعات البشریة.
***
د. نوزاد جمال
باحث واستاذ في الفلسفة الحدیثة / سلیمانیه- اقلیم كردستان العراق
.....................
1- Paul Radin: Primitive Man as Philosopher 1927