قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في المختارات الشعرية "الاحتيال على الفصول"

لحسين الهاشمي.. العلاقة الشعرية وتضاعيف المستلب من خصوصية الدال الشعري

توطئة: لقد دخلت مشروعية البناء الشعري عاملا قصديا في مفهوم شعرية الميتاحداثوي ووظيفته ومشخصاته، ذلك إلى جانب أوضاعه الدلالية الكاشفة أو اللامكشوفة من تأسيسات منظور رؤية الشاعر وأشكالها واحوالها النواتية والأسلوبية المحفوفة إلى أقصى درجات (القول بما لا يقال؟). لقد أصبحت القصيدة ضمن منطلقاتها التصويرية والتأملية تمنحنا ذلك التحفيز في معاينة اشتغالية الدال المروي بوصفه هدفا قصديا في بث لواعج الذات شكلا آخر يتجلى في آفاق المتن الشعري تجليا محملا بأسمى صلات نوادر الشعرية التي تطرح الذات فعلا مرتبطا بأقصى تخوم مأزومية التجربة الموضوعية في النص، وما تتطلبه حسابات الدلالة الإحالية من فواعل تسخيرية خاصة بالمفردة الاستعارية والمرمزة في مشروع طرح صورة (الذات المستلبة؟) عبر مساراتها في سياق خارجي أو داخلي من رسومية أحوال المنطقة الشعرية التي هي منصصة (سياقا مضادا) لأحوال ذاكراتية وخارجية وذاتية منكسرة في الخفاء والغموض والتستر على هويتها الكاشفة في منعطفات زمنها ومكانها وجغرافيتها الاستكمالية في المنحى والنحو والخصوصية الصاعدة والنازلة.

ــ الفاعل الشعري وسيرذاتي الإحالة الشعرية.

من خلال تجربة مجموعة مختارات المبدع العذب (حسين الهاشمي) التي جاءتنا عبارة عن كيانات مبثوثة عبر حساسية التفاعل بين (السيرذاتي ــ الإحالة الشعرية) تقدم لنا دلالة العتبة العنوانية للمجموعة (احتيال على الفصول) بما يوثق لدينا فرضية الدلالة الملتبسة في مستوى صورة ووظيفة (احتيال؟؟) بإنضمامها إلى خانة الاحتمالات المستجيبة لمعنى وفعل الاحتيال ــ شكلا في منصة الخداع تمثيلا ــ ولكننا لو تعلمنا مع المفردة في منطقة المقترح التأويلي ــ الإحالي ــ لوجدنا شرعيتها الشعرية في سياق متدرج ومتعدد، على النحو الذي يمنحها بنية متحركة ومتموجة وقابلة للانشطار المفهومي والاستعاري وقابلة أيضا إلى ذلك التعدد والتنكر بحسب كيفيات القراءة والتلقي، وبما يحفز لدينا في الوقت نفسه رغبة التأويل في النظر إلى احوال الصور المفترضة تشكيلا وتجاوزا نحو غائية متماهية مع أوجه دلالات مرفقة بصيغة (احتيال على الفصول) إمعانا بالمتعلق من الاحتمالات المستجيبة لمنطقة القصد المؤول شعريا:

ربما يكفي

لإطفاءِ الحروب

أن أجنّدَ القمرَ الحائرَ

في غفلةٍ منها

و أُلقيهِ

كالأملِ الأعزلِ

في بُرْكَةٍ راكدة. / ص10 

قصيدة: (دائما.. أنا والعتمة)

إن مثل هذا النوع من الاحتيال التوجهي بالدال لربما هو ما يحقق بدوره تلك الاستجابة على نحو تقاني وحسي في آن معا (أن اجند القمر الحائر = وألقيه كالأمل الأعزل ــ في بركة راكدة) فخاصية التوليد الاحتيالي تكمن على صعيد حالة مدروسة بالصورة الاستعارية نحو سلطة تشكيلية تتوجه بكثافة: المستهل (ربما لا يكفي) نحو (القمر الحائر) إلى (في غفلة منها)و بذلك يمكننا جملة (الأمل الأعزل) بوصفها حركة انزوائية بالزمن التلفظي نحو نقطة تثبيت هذا الدال (القمر) في النحو الذي لا يناسب الطاقة الحوارية المكنونة بين (الذات ـ الموضوع) وصولا بجملة (في بركة راكدة) أما محاولة جملة فعل (وألقيه)فقد حلت في طور من اللااختياري أو الاارادي من جهة الباث، لتكون صورة القمر بما يقارب مسرحة الأمال والأمنيات المستلبة والضائعة، حتى وإن كانت موجودة فهي تبرز لشاعرها وكأنها الفسحة الزمنية الخارجة عن النقاء والصحو وجمال الغد القادم.إذن إن عملية مبثوثات الذات الراوية هي في أقصى حالاتها لا تتجاوز مفهوم هيمنة فعالية خارجية ما باطشة على ذاتها المستلبة، كما الحال عليه في دلالات قصيدة بلا عنوان هي، فقط هناك ثمة قاب قوسين يشغله الفراغ العاتي:

لمَنْ سألني

عن زوبعةِ الريحِ الآن..

ليستُ من هواةِ أوراقِ اليانصيب

ينثرها صبيُّ نَزِقٌ

رفقةَ جوقٍ للإنشاد..

قدمي راسخةٌ

وحزني خَفيّ.. مورقٌ أبدا

كي لا يزعمَ الخريفُ يوماً

هزيمةَ الشجر. / ص14   قصيدة: ()

1 ــ صيغ التوجه الاحوالي ومسرحة الأداء التمثيلي:

من الظاهر واللافت أن السارد الشعري (السيرذاتي) إتجه نحو قلب الإشكالية الحياتية لزمنه الذاتي، لذا باتت غائيته الذاتانية صيرورة ملحة على هوية (الأنا الفاعل ــ الأنا الجمعي) وصولا إلى ما يساوي ديمومة مأزومية الذات فعلا وفاعلا، ولكن ضمن مؤشرات احوالية وحدوثية متنوعة. فيما تبقى الإشكالية الشعرية في قصائد الهاشمي كونها (سيرة ذات؟) تتأهب في أقصى حالاتها القصدية إلى توصيف حساسية الأنا المكانية والزمنية والذاتانية بصورة تبدو منتجا على صعيد انفعالات الذات من جهة خاصة، وهذا الأمر بدوره لا يعاكس طبيعة صناعة القصيدة، خصوصا وإنها ذلك المستعاد الحسي للذاكرة واليومي المعاش، بمعنى ما أن وضع شعرية وقصيدة (حسين الهاشمي) يتلاءم مع هوية أسلوبية التأملي والشرودي والتوحد مع الذات مما جعل نصه غاية في الإحالة والتشكيل الدلالي المتضافر وحدود تجربة القصيدة لديه. لذا أردت القول بأن الجمل الشعرية الأولى من قصيدة الشاعر (لمن سألني ــ عن زوبعة الريح الآن ــ لست من هواة أوراق اليانصيب) تكاد أن تكون الدلالة ذاتها من حصيلة استلاب الذات بعد أن يتعلق الأمر بنتائج سوء الحظ وإنحدار البشارة في المعنى المقارب، لذا تكون المسألة أكثر مأساوية عندما يتحدد الأمر بنتائج نصيب الشاعر من خلال يد ذلك القدر اللامعتدل والمتمثل بجملتي (ينثرها صبي نزق ــ رفقة جوق للإنشاد) ومن المتعارف عليه عرفيا واجتماعيا أن فئة (جوق الإنشاد؟) ممن تنعكس على مراسم سلوكهم الكثير من الصفات الذميمة واللامحمودة إطلاقا، لذا جاءت الجمل الأخيرة من القصيدة بوصفها العلاقة الشعرية مع ما يحيطها من تضاعيف المستلب من زمن حياة الذات ومصيرها الوجودي الذي يناظر خفاء جمل (قدمي راسخة ــ وحزني خفي ــ مورق ابدا) وبمثل هذا أو ذاك تواجهنا العديد من قصائد مختارات (الاحتيال على الفصول) وكأنها الصرخة التي تند عنها إقرارية حدود اليقين الحاسم بأن ممارساتنا الحيواتية ما هي إلا عملية احتيالية على زمن حكاية العمر والذاكرة والمستعاد والمستعار والمشار إليه حالا مراوغا في مواطن الاضطراب والترديد الوجداني بفيض خواء الضمير الوجودي المتلاطم.

ــ جغرافيا الجسد ومرايا وجوه المستعاد والمتشظي:

إن شفافية التوالدات الدلالية في منجز (الاحتيال على الفصول) تعزز القيمة الرمزية في سمات التحولات البنائية والاسلوبية في مكونات مشروع القصيدة، لذا فالقصيدة تضحية جسدية تارة ومنكسرة بإمكانية منطقة اللاشعورها الفردي والجمعي تارة أخرى، هي ذاتها ذلك الانبعاث من رمادها إلى فناء الجسد وخلود الروح في ذكرى مستعادة، لتكشف لنا صور عمليات استبدالية موسعة من ناحية شعرية النص وعذاباته الملاءمة مع المواضع الشعرية ذات العلاقة الضمنية والعلنية من تكوينات أدلة مسميات الأشياء في مادة رؤية النص:

تذكرتان..

واحدةٌ للجسدِ الذي يغيب

و أخرى للقلبِ الذي يطوفُ

بلا ضفّة..

الحياةُ ومضةٌ

قالَها ومضى.

ص15 قصيدة: (رفقة صديقي ماركيز)

لقد أضحت مثل هذه البنيات الشعرية في علاقات الظاهرة الاقترانية، كحال أن يكون المستدعى في النص أسما مرجعيا أو صفة ما لاحدى روابط الأدباء الخطية. عموما هذه النصية من شأنها خلق كيفية تناصية من النوع الظاهر وليس من قبيل تزاوج أو تلاحم ما بين عوالم هذا الشاعر وذاك الروائي، وبصرف النظر عن إن الهاشمي ليس دؤوبا في جلب التناصات في شكلها المتشعب، غير إنه أراد من العتبة العنوانية توليدا لمسار محاكاة تماثلية مشروطة كحالة صياغة خرائطية لدليل النص وليس خطوطية النص تفصيلا. عموما أن القارىء الفاعل لقصيدة (رفقة صديقي ماركيز) يلاحظ مدى الاستجابة بالخصوصية ما بين الأحوال وليس الخطاب في نسقه التعاضدي: (تذكرتان.. واحدة للجسد الذي يغيب، وأخرى للقلب الذي يطوق، بلا ضفة..) أن تحديثات الواقع والواقعة التشكيلية ما بين الجمل تشكل بحد ذاتها جملة متفاعلات (الأنا الروابطية؟) وأقصد منها الأنا التي تشغل بذاتها عدة نقاط محورية في الظاهرة النصية. فالشاعر الهاشمي أراد لنصه والدلالة (تذكرتان) جمع التحيينات التفاعلية في دوال وسائطية (الجسد ــ الغياب ـ القلب ـ يطوف ــ بلاضفة) داخل إحالات تحقق للقصيدة علامات إيحائية مصاحبة وليس محض دوال خطية في المحتوى والأفق، ذلك لأن تعيينة الأثر لا تسبق المؤثر الذي هو الأنا الرابطة،لذا فهي تقدم موصوفات ذاتها ضمن استراتيجية استعارية وإيحائية موازية ومتماهية، لأستظهار: (الحياة ومضة ــ قالها ومضى) إذن المعطى الواصف هو (القلب) دون الجسد الذي أصبح (وعلى ساق واحدة.. هناك أقف) الأكيد في الأمر هو أنني لا أود الاختزال في القراءة، ولكن لا يحتكم في الأصل إلا الدليل الجوهري في مقاطع الدوال. أردت أن أقول سلفا أن عمليتي التحسيب والتقريب هما المسافة بين الدوال ومعطياتها التواصلية، فمثالا أستأثرت بنية العتبة العنوانية بالشخصية ماركيز، تحقيقا وخلوصا إلى مقاربة حالة الاحتكام المعلقة ما بين الأنا الشاعرة والمثال المعالج ماركيز:

هل تدري يا صديقي..

منذُ مائة عامٍ في المرايا

تبدو ملامحُ عزلتي

كصورِ الحروبِ

مشاكِسةً

وعلى ساقٍ واحدة..

هناك أفقُ

جوارَ حقيبةٍ تحملُ طفلاً. / ص15

أن كيفيات الافضاء لدى الشاعر لا يمكننا وصفها بالتوالدات المنعسكة على ذلك المعطى المراوي، بل إنها حقيقة الإيحائية المضمرة في الذهن وأنعكاسها على هيئة تحقيقات وعوائق تستدعي مستويات تشكيلية ذات حدود تدليلية في الرؤى وفعالية فضاءات الانتاج والمنتج الآفاقي في المتن النصي.

ــ تعليق القراءة:

أقول أن الشاعر الهاشمي يفتتح في مجموعة مختاراته الشعرية تلك المساحات المعادلة والتعادلية التي تشغلها الشروط الدلالية والتشكيلية لصيرورته الشعرية المكتنزة عبر منظومة فعلية توزع مساراتها على شبكة حالات دوالية ودلالية قادمة من ذلك المتن النصي المشبع بأسمى مستلزمات العلاقة الشعرية وتضاعيف ذواتها المستلبة من حيز خصوصية ومخصوصية محاور الدوال الأفعالية والأسمية والصفاتية الأخاذة في رصيدها المشهدي وتحولاته وانعكاساته وأحلامه المقموعة.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم