أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: الذاكرة والخيال

تمهيد: من خلال ما اشار له فلاسفة عديدين في تلازم الذاكرة والخيال بوجهات نظر متباينة خلصنا أنهما إفصاحان يدركان بدلالة تعبيرهما عن (الزمان) بصورة متضادة متعاكسة، فالذاكرة تعبير إستذكاري متجه نحو الماضي دوما، يعاكسه تعبير الخيال متجها نحو سيرورة مستقبلية غائبة ليست موجودة في زمان مدرك الحضور. الحاضر آنية منحلة مندثرة متلاشية بين شد الماضي وتوظيف المستقبل. حضور الموضوع في الذاكرة والخيال على السواء ضرورة ادراكية.
بالحقيقة هذا التفريق المتعاكس بين إختلاف زمانية الذاكرة نحو الماضي، وزمانية الخيال نحو سيرورة مستقبلية هي إجتهاد لنا سبق لريكور ذكره بعبارة سريعة سرعان ما غادرها من حيث تكريسها الانفصال بين الذاكرة والخيال غير المتفق عليه . وحيث معظم الفلاسفة رغم هذا التعارض الشديد بين تحقيب وقتين مختلفين، يذهبون – الفلاسفة - الى تبعية الذاكرة للمخيلة أو تبعية المخيلة للذاكرة من ناحية أن الذاكرة هي زمان ماض يحتوي زمانية الخيال في إرتباطهما المشترك بتقلبات النفس.
وذهب بعض الفلاسفة تأكيدهم أهمية ربط الذاكرة بالزمن الماضي في معرفة دلالتها حين تكون الذاكرة مرافقة لزمن مرّ، زمن مضى، عليه يمكننا إستخلاص ثلاث نتائج من هذا المعنى ربما لا يأخذ بها بعض الذين يعاملون تجريد الذاكرة والخيال جوهرين لا علاقة تربطهما بالعقل بل هما ولا حتى تجريدين إدراكيين منفصلين يحتويهما العقل بالوصاية الفكرية عليهما:
1. الذاكرة موضوع تجريدي مدرك بدلالة وظيفته في إرتباطه المتلازم بإستذكار وقائع وحوادث الزمان الماضي. والذاكرة في تجريدها من الخيال لا يبقى معنى لها كما يتضح معنا لاحقا.
2. الذاكرة إنشاء تعبيري تجريدي صوري صادر عن العقل في إستذكار وقائع الزمن الماضي. ولا يقلل من هذا تنسيب الذاكرة الى تابعية النفس، الذاكرة لا تمتلك إستقلالية المدرك المجرد ولا بأس من ربط النفس بها كما جرى ربط الخيال بها، ولا معنى لشيء يدعى ذاكرة مجردا عن دلالة ارتباطه بوقائع حدثت وجرت كحوادث واقعية في زمن ماض هو تحقيب تاريخي وليس زمنا.. فالذاكرة هي تخزين تصوري لوقائع قبل كل شيء وهي تحقيب تاريخي لزمن ماض جرى وقائعيا وحصل وغادر حضوره الآني الحالي.
3. الذاكرة فعالية إستذكارية منبثقة عن تفكير عقلي منتج لها ولا تمتلك هي خاصية إستذكار وقائع الماضي من دون مرجعية الخيال العقلي . بمعنى الذاكرة التي تعتمد العقل في إنتاجه لها لا تكون الذاكرة موضوعا مستقلا مجردا للعقل . كما عندما تكون الذاكرة مبعثها إستثارة نفسية لمدّخرات إستذكارية مخزّنة ايضا لا يمنحها هذا غير صفة التجريد المرتبطة بتفكير العقل.
الذاكرة والزمن
علاقة الذاكرة بالزمن علاقة اشكالية في عدة أمور نحاول الاشارة لبعضها حيث يشير بعض الفلاسفة عن إشكالية الذاكرة بالادراك قولهم " البشر يشاركون بعض الحيوانات في الذاكرة المحضة، غير أن الجميع – البشر وبعض الحيوانات - لا يملكون الحس الادراكي على أن الاسبيقية تتضمن بين القبل والبعد – يعني السابق واللاحق هما في الزمان "1
هذا التعبير الملتبس المعنى بعض الشيء نجد في مناقشته أنه من الصحيح الذاكرة قسمة مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات وليس جميع الحيوانات إشتراكهم في مرجعية العقل والذاكرة لذا لا يمكن للحيوان إمتلاك فاعلية الاستذكار بمعزل عن فاعلية العقل بتزويد الذاكرة بهذه الخاصية الاستذكارية للماضي. الاستذكار خاصية انسانية فقط دون بقية الكائنات والموجودات في الطبيعة.
والحقيقة التي لا نقاش عليها أن البشر والحيوانات لا يمتلكون الحس الادراكي للزمن في تجريده الاستشعاري غير المتحق عقليا، بمعنى إدراك الزمن كتجريد ماهوي قائم لوحده لا يدركه الانسان ولا الحيوان.. علما إن الحس الادراكي للزمن عند الحيوان معدوم تقريبا حسيا وتجريديا. بخلاف الانسان الذي يدرك الزمن بدلالة غيره ممثلا بمقدار حركة الاجسام التي يحتويها.
الزمن لا يدرك بزمن يجانسه كون ماهية الزمن لا تقبل التجزئة ولا التقسيم تماهيا مع تعبير ارسطو لا يحد الزمان بالزمان. (لايضاح المزيد عن هذه الجزئية أدعو مراجعة أكثر من مقال لي منشور على مواقع عربية عن الزمان بالمنظور الفلسفي آخرها كان بعنوان (الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال).
ذاكرة الانسان تدرك الزمان الارضي الطبيعي كتقطيع إفتراضي كتحقيب يقوم على إدراك مقدار ونوعية حركة الاجسام داخله. والزمان ماهية وصفات تعجز حتى بعض الحيوانات القريبة عقليا من ذكاء الانسان ادراك الزمان بمقدار حركة الاجسام لا هي بذاتها ولا بدلالة غيرها من أجسام تدرك حركتها لكنها تجهل زمانية تلك الحركة، الزمان تجريد يعرف ويدرك بدلالة قياس حركة غيره من الاجسام داخله، والمساواة بين الادراكين الحركة وزمانها بإنفصال الحركة عن زمانها هو محال لا يدركه العقل. فهما غير متساويين بل ومختلفين. فحركة الجسم هو مقدار زماني، وليس زمانا مجردا يدرك وحده منفصلا - اي موضوعا - عن حركة الاجسام داخله (الزمن). كما أن إدراك الزمان كتحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل يكون في إرتباط حركة الارض حول نفسها وحول الشمس ايضا وعلاقة الارض مع باقي أجرام المجموعة الشمسية تحديدا القمر وقانون الجاذبية.
المقصود التوضيحي انت لا تستطيع ادراك حركة الشيء بمعزل عن ادراكك مقدار تلك الحركة زمانيا. لذا يكون ادراك حركة الشيء زمنيا لا يعني ادراك زمن تلك الحركة تجريدا زمنيا منفصلا عن حركة الشيء او الجسم داخل الزمن. بمعنى الزمان محال إدراكه ماهويا إلا بدلالة مقدار حركة جسم تلازمه في داخله يحتويها الزمن بحيادية تامة.
الزمن ماهية لا تدرك وغير قابلة لادراك العقل كموضوع قائم بذاته مجردا. ومحال ادراك الحيوان (للماقبل والمابعد) اي لحظتي الزمان الافتراضية غير المتحققتين ادراكا. لا يدرك الحيوان للماقبل ولا للمابعد مطلقا بهدف إدراكه مقدار الزمن بل ولا إدراكه زمن موجودات الاشياء التي تشاركه وجوده الانطولوجي ايضا، والزمان حتى بالنسبة للانسان يدرك كتحقيب وقائعي في تعاقب الزمان بالقياس لحركة الاجسام ولا يستطيع الانسان إدراك الزمان كماهية مجردة أو صفات نتيجة إدراكه مقدار حركة الاجسام في زمان لا يدرك لوحده كينونة مستقلة وجودا يمكن إدراكها من غير الحركة المادية الحاصلة داخل الزمن وليس خارجه فلا يوجد للزمن (خارج) يحدّه.
ذاكرة الحيوان في حال أفتراضنا أنها تمتلك استذكار الاشياء والوقائع من الماضي كما يفعل الانسان . فهي – الحيوانات - لا تعي تحقيب الزمان الارضي كوقائع كما يدركه الانسان كماض وحاضر ومستقبل. أي ذاكرة الحيوان لا تعي الزمن كتحقيب تسلسلي نظامي كما يعيه الانسان ويتكيّف بموجبه. ذاكرة الحيوان تجد في الحاضر الذي تعيشه ولا تدركه عادة من السلوك المعتاد الذي لا يحتاج معه ذاكرة. والحيوان مثلا يشعر بتبدلات المناخ والبيئة من حوله واحيانا يتنبأ قبل الانسان بحدوث ظواهر طبيعية لكنه يجهل أسباب حدوث هذه التغيرات المناخية وهذه الظواهر ولماذا تحدث؟
وحين يطرح ارسطو في كتابه " الانطباعات" قوله " أننا حين ندرك الحركة فأننا ندرك الزمن. غير أن الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة، إلا اذا حددناه. أي أذا إستطعنا تمييز حركتين الاولى كسابقة والثانية كلاحقة، وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة "2
من الصائب الصحيح الظاهر من العبارة تعبير ارسطو قوله " حين ندرك الحركة ندرك الزمن " لكن إلتباس العبارة يكمن أننا ندرك الزمن بدلالة حركة جسم ولا يعني هذا امكانية إدراكنا الزمن مجردا عن حركة الشيء المتحرك داخله. بمعنى إدركنا الزمان مجازيا مجردا في إدراكنا حركة جسم داخله، أننا نقيس مقدار الحركة لمعرفة زمن حركة تلك الاجسام وليس مقدار حركة الزمان بدلالة حركة الجسم. الزمان ماهية وصفات تجريدية ثابتة محال ادراك الماقبل كلحظة تسبق المابعد بغير دلالة حركة شيء زمانا...عبارة ارسطو التي مررنا بها في منتهى الدقة والصواب قوله (الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة) بمعنى لا إدراك زمن من دون إرتباطه بدلالة حركة جسم أو شيء فيه. وإدراك الزمان لا يدرك بإختلافه عن الحركة ايضا. الزمان قياس مقدار حركة جسم داخله لكنه اي الزمن ليس بحركة.
الزمان حتى في قياسنا مقدار اللحظة فيه يكون متعذرا من غير تعالقة مع حركة الاجسام كزمان مطلق ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه مجردا يمّثل نفسه كوجود ندركه وحده. وعندما نحاول وصول – تحقيق المستحيل الفيزيائي – حسب رغبة ارسطو تحديد زمانية الماقبل عن لحظة زمانية المابعد مجردتين عن حركة جسم ما نكون دخلنا تقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة حسب تعبير ارسطو، والسبب واضح لماذا؟
أولا لا يمكن تحديد لحظتين زمانيتين مجردتين عن حركة جسم يلازمهما. الزمان لا يدرك موضوعيا لا في كينونته المطلقة الكلية ولا في إفتراضنا الخاطيء أننا نستطيع تجزئة وتقسيم الزمان الى لحظات أو غير لحظات من غير دلالة حركة شيء جسم يداخله زمانيا. من حيث اللحظة هي مقدار زمني لحركة شيء وليست اللحظة تجريدا زمانيا يمكننا حدّه وإدراكه بزمن. الزمان تجريد لا يدركه العقل لأنه ليس من صنع وأبتداع إدراك العقل له كوجود ولا هو معطى أنطولوجي متعالق وجودا بالطبيعة يدرك منفصلا بغير موجوداتها. بخلاف جميع التجريدات الادراكية الاخرى التي يصدرها العقل وهو يدركها ويعيها لأنه صانعها وهي التي ندركها زمانيا كونها أصبحت تجريدا عقليا. الزمان في كل الاحوال لا يكون موضوعا مستقلا لادراك العقل. وعندما نقر بصحة إختلاف تحليل الذاكرة عن تحليل الزمان المشروطة بتحديد اللحظتين الزمانيتين (الماقبل والمابعد) اللتين من المحال تحققهما كما أوضحناه قبل أسطر قليلة، نجد حقيقة الذاكرة هي أستذكار تصوري تجريدي لوقائع وحوادث وقعت في الماضي محفوظة بالذاكرة تستطيع الذاكرة إسترجاعها الاستذكاري الناقص بتأثير عامل النسيان. وهذا التجريد يختلف تماما عن إمكانية إدراك عقل الانسان للزمان مجردا عن الحركة التي يحتويها لجسم، في معرفته لحظتي الماقبل والمابعد. الانسان ليس بمقدوره ادراك الزمان مجردا عن حركة الاجسام داخله. الزمان محال إدراكه تجريدا مفهوما أو موجودا لوحده فيزيائيا. الزمان ليس بموضوع يدركه العقل، كما الزمان دلالة حركة لكنه ليس بحركة يمكن رصدها. الحركة صفة للمادة لكنها اي الحركة ليست صفة للزمن بل صفة لحركة جسم يحتويه زمن. فيزيائية الزمن على انه حركة ملازمة لادراكنا الاشياء خطأ. بدلالة الحركة ندرك حركة الاشياء والاجسام داخل الزمن.
النفس والذاكرة
جرت محاولة فلسفية ربط الذاكرة والخيال بالنفس في تاكيد مقولة افلاطون بهذا المعنى، تلا ذلك تعبيرات فلسفية حول تعالق الذاكرة بالزمن مثل قول مونييه " كل ذكرى تصاحبها فكرة الزمن" وقول سوراجي " كل ذكرى تتضمن الزمان" وقول منسوب لارسطو " أن نكون في الزمان يعني أن يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا وبالنسبة للحركة، فأننا واقع كوننا في الزمان يعنى واقع أن نقاس في وجودنا" " وتعلن النفس أن هناك لحظتين السابقة من جهة واللاحقة من جهة أخرى، عندها نقول هذا هو الزمان". العبارات المقتبسة عن المصدر هامش رقم3
تعقيب: ربط الذاكرة بالخيال والنفس لا يغير من حقيقة أن مرجعية العقل تحدد كل شيء بالنسبة لهم ثلاثتهم كتعبيرات صادرة عن العقل. وربط الذاكرة بالماضي كتحقيب لازماني لا يجعل من الخيال تابعا للتعبير عن الماضي فزمان الذاكرة هو غير زمان الخيال والمخيلة. وتوضيحات اكثر نجدها في:
- الذاكرة ليست مصدر توليد تداعيات المخيّلة، والذاكرة استذكار صوري لافكار تجريدية في تعبيرها عن وقائع زمانية الماضي. وربط الذاكرة بالخيال قضية جدالية غير محسومة بين مؤيد داعيا لانفصالهما مثل بول ريكور ومن قبله برجسون، وبين داع لربطهما مثل العديد من الفلاسفة الذين يرون في أحدهما تعبيرا ضمنيا عن الاخر.فعندما نلفظ مفردة ذاكرة فالمفهوم الدارج أننا نقصد ملازمة الخيال لها وتوليدها ماهو ماض إستذكاري مخزون لديها.
- أن نكون في الزمان لا يكفي التسليم أننا أصبحنا يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا حسب ارسطو، هذا الافتراض يحتاج أدلة برهانية تصادقه لأننا ببساطة، لا نستطيع إدراك الزمن لوجودنا وذواتنا بدلالة طرف ثالث غير موجود يحكم ويراقب وجودنا في أحتواء الزمان لنا، الزمان يقيس الحركة بوجود جسم متحرك وطرف ثالث غير الزمان وحركة الجسم به يقيس مقدار الزمن بالحركة وليس مقدار الزمان فينا الذي لا ندركه؟ الشيء الذي لا يمكننا تصوره اننا داخل الزمن في كل لحظات وعينا لذواتنا. معنى تعبير ارسطو (ندخل الزمن) بقياس مقدار حركتنا به خطأ.
صحيح جدا من الناحية الفلسفية نردد مع ارسطو أننا نقع في قياس الزمن لنا، لكن الاهم من ذلك هذا الافتراض ندركه بدلالة ماذا ودلالة من؟ المفروض الواجب هنا كي ندرك قياس الزمن لنا ولذواتنا يتحتم وجود طرف ثالث لا هو الزمن ولا هو نحن الذي يتلبسنا الزمن داخله. حضور الطرف الثالث محال تحققه ليؤكد قياس الزمن لنا كوجود انطولوجي تسبح أجسامنا داخل الزمان الذي يحتوينا ويدركنا ولا ندركه...باستثناء إفتراض تصنيع آلة كطرف ثالث لهذا الغرض.
- من البساطة الافتراض أننا بمقدار ما نفتقد القدرة على هيمنة الزمان فهو أيضا يفتقد القدرة على التلاعب الحركي زمانيا بنا، الزمان دلالة ادراكية يتبع حركة الاشياء داخله ولا يتبع وجود الاشياء داخله. فالانسان وكافة الاشياء والموجودات لا تدرك الزمان يحيط بها إلا بدلالة (حركة) ليس للزمان علاقة باستحضارها بمقدار ما تكون الحركة خاصية الاجسام المراد قياس زمانها. بمعنى حركة الاجسام داخل الزمن لا يولدها ويخلقها الزمن خاصية داخل الاجسام المتحركة كي يدركها الزمن. فالادراك يتحدد بحركة الاجسام خاصية لها داخل الزمان وليس بحركة الزمان الملازمة للاجسام وهي لا تمثل جزءا من تلك الاجسام. فحركة الجسم هي خاصية في تكوينه، لكن قياس مقدار حركة ذلك الجسم الذي هو الزمن يكون طارئا لا يجانس الجسم ولا حركته لا بالصفات ولا بالماهية، بمباشر العبارة الزمان ليس وجودا ندركه كما ندرك وجود بقية الاجسام فيزيائيا. .
- ربط الذاكرة بالنفس يبرره بعض الفلاسفة الى أن التذكر مبعثه إنفعال نفسي، والذاكرة لا تستستطيع تذكر وقائع الماضي من غير إستثارة نفسية تحفز الذاكرة على انبعاث انطباعاتها التذكرية االمخزونة فيها. التساؤل هنا هل الذاكرة هي الخيال نفسه ولا فرق بينهما؟ بدليل الذهاب الى أن استذكار الماضي هو خاصية الذاكرة، وأفكار الخيال رغم أنها تحوي إستذكارات واقعية ماضية، الا أن الخيال يمثل تفكيرا مستحدثا أيضا لاعلاقة تربطه بالذاكرة في توجهه نحو المستقبل.
هذا يجنبنا الوقوع في محذورين الاول أن الذاكرة ليست توليدا لافكار الخيال، والثاني أن الخيال يمتلك إستقلالية تفكيرية عن خاصية الذاكرة أنها لاتستطيع التعبير عن أفكار خيالية لم تكن مطبوعة بالذاكرة مكتسبة فيها كخبرة متراكمة.
الذاكرة واللغة
من المسائل المهمة العالقة بموضوعة الذاكرة هو صورة التذكر الاسترجاعية لغويا. فالذاكرة بمقدار ما تكون إفصاحاتها التذكرية أسترجاعا مبعثه الانفعال النفسي، لما سبق وأن إنطبع عليها صوريا كخزين، إلا أن زمن الاسترجاع لاحداث الماضي ليست هي لغة التخزين الذاكراتي. غالبا ما يكون الاسترجاع التذكري هو الزمن الحاضر الذي يجعل من الاسترجاع التذكري للماضي منقوصا غير متطابق فيه لغة التصور الاستذكاري مع لغة الواقع الذي تكون عليه قراءتها كاحداث جرت في الماضي. لسببين الاول آفة النسيان التي ترافق الذاكرة، والثاني إختلاف لغة التعبير الزماني في محاولة الربط الاستذكاري بين ماض وحاضر. بمعنى الوقائع الماضية رغم تقادم الزمن عليها تبدو أكثر أصالة حقيقية منها في حالة لغة الاسترجاع التذكري الناقص لها.
بهذا نكون وصلنا الى نقطة مفصلية في توكيد حقيقة هيمنة الخيال على الذاكرة وليس العكس، حين نجد أن كل تصورات الذاكرة الاسترجاعية التذكرية أنما هي تصورات لغوية من صنع الخيال، وبغير هذه الملكة التي يمتلكها الخيال ولا تمتلكها الذاكرة، أنما يكون فيها الخيال يعيد نفسه إسترجاعيا بتوسيله الذاكرة القيام بما يحمله الخيال من دلالات تعبيرية، وعليه لا يبقى هناك ما تلعبه الذاكرة بمعزل عن وصاية الخيال عليها. لكن هذا الاستنباط في مصادرة الذاكرة لصالح الخيال تصطدم بخاصية تمتلكها الذاكرة ولا يمتلكها الخيال، فالذاكرة تتجه الى إستذكار كل ماهو واقعي تاريخي حدث في زمن ماض، في حين الخيال يمتلك ايضا ما لا تمتلكه الذاكرة من حيث هو يتجه نحو تحقيق حضور ما هو وهمي مطلوب استحضاره.، غير واقعي، يوتوبي، وأحيانا غير موجود.. وأمام هذه المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بالتسليم في إستحالة فصل الذاكرة عن الخيال في القصدية التي تبدو لنا متناقضة لكن هي في حقيقتها متكاملة.
حقيقة الذاكرة وصدق التعبير
من خلاصة ما مر بنا وغيره كثير نجد أن عدم الثقة بكل من الذاكرة والخيال يرتبط بتقصيرهما المشترك في عدم صدقية كل منهما في التعبير عن موضوعه. فالذاكرة يشوبها النقص الملازم الاول لها في آفة (النسيان) الذي تعجز الذاكرة التعبير عنه بصدقية موثوقة يمكن الاخذ بها. الناحية الثانية من تقصير الذاكرة هو أن افكارها الاستذكارية ليست تنميطا نوعيا يشمل جميع الذين يحاولون استذكار نفس الوقائع من الماضي.
فالذاكرة هي والخيال خاصيتان انفراديتان من ناحية الفاعلية الادراكية، وهما بنفس الوقت خاصيتين متلازمتين من ناحية كونهما تجريدان إدراكيان في منظومة العقل الادراكية. يتفاوتان من شخص لآخر نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية ترتبط بذاكرة كل شخص منفردا. فالذاكرة قد تمرض ويصيبها الوهن والضعف، وفي أوقات وشروط موضوعية تنشط، وهناك مقولة تذهب أن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشباب لكن عندهم ذاكرة غير نشطة تتذكرأقل ما تتذكره ذاكرة الشاب..
ما يتفق عليه الفلاسفة هو أننا لا نملك شيئا كوسيلة أفضل من الذاكرة متاحة لنا في إستذكار الماضي كوقائع، الذي يجعلنا ندرك مسبقا وجود ماض بحاجة الى إفصاح وتذكر له. ولا توجد وسيلة لكشف هذا الافصاح غير الذاكرة. لكن هل معنى هذا إكتساب الذاكرة الصفة الانفرادية الموثوقية المطلقة بها؟ وهل ما تنقله لنا الذاكرة كاف للتدليل على مصداقية مطلقة لعملية الاستذكار؟ ينقل بول ريكور عن كتاب ارسطو "مابعد الطبيعة" مقولة شهيرة لارسطو مفادها "الذاكرة من الماضي، والوجود الماضي يقال بطرق متعددة، فالوجود يقال على أوجه عدة".4
يعبّر بول ريكور عن هذا إلاحراج المتسائل قوله لا يمكننا أماطة اللثام عن حقيقة ومصداقية الاستذكارات، الا من خلال توسيط طرف ثالث يكون هيئة نقدية تعارض وتدرس وتقارن بين شهادات الذاكرة لاتاحة ما أسماه المرور الموثوق بين الذاكرة وبين التاريخ.5 .أما مسألة الطعن بمصداقية الخيال من ناحية المقارنة بينه وبين الذاكرة فنجد أن مساحة التشكيك بمصداقيته غير الموثوق بها نابعة أصلا من موضوع المعالجة التي هي من حصة الخيال في تصورات وهمية وأماني معلقة وسياحة فكرية في انتقالات اللاشعور غير المحدود لا يلتزم كما في الذاكرة شروط التفريق بين الشعور واللاشعور وبين الحقيقي والوهمي وبين الصادق والكاذب وغيرها من أمور يكون فيها خداع الخيال أصدق من التعبير عن الواقع الحقيقي للذاكرة في الكثير من الاحيان.
الذاكرة والتاريخ
يذكر بول ريكور كنت أعالج القطب القصصي للخيال في كتابي (الزمان والسرد)، حين عارضت السرد الروائي الخيالي بالسرد التاريخي، أما الآن فعلينا أن نضع أنفسنا بالنسبة للقطب الاخر قطب الهلوسة، وكما أعطى برجسون طابعا دراميا الى قضية الذاكرة عن طريق منهجه بالتقسيم والانتقال الى الطرف الاقصى، علينا أن نعطي طابعا دراميا الى موضوعاتية الخيال بأن ننظمها بالنسبة الى قطبي القصصية الخيالي والهلوسة)6
أن تواشج خاصية (الهلوسة) الوهمية رغم عقلانية الذاكرة التي تتسم بها،هي قسمة مشتركة بين الذاكرة والخيال معا. فالماضي بالنسبة للذاكرة هي نوع من الدراما المكتوبة على وفق نسق تاريخي يخترمه إنتظام الزمن. وهو ملك مشاع لاستذكار الذاكرة بنفس الوقت الذي يكون فيه ساحة ملعب لهلوسات الخيال يصول ويجول فيه....الشيء أو الفارق الذي يتوجب الاشارة له في هذا التداخل الذاكراتي مع الخيال بالنسبة للماضي كدراما تاريخية هو (الزمن)، ليس بالافتراق التقليدي أن الذاكرة هي توثيق زمن الماضي، والخيال يحسب على مداخلة تعبيره عنهما (زمني الحاضر والمستقبل) الذي يحاول تصنيعهما وتنبؤه في مستقبلهما.
الخيال حين يزاحم الذاكرة في منطقة وساحة نفوذها دراما تاريخية الماضي الذي من حقها الارجح التعبير عنه، نجد الخيال بطبيعته اللاشعورية المهلوسة الفوضوية يتناول حقائق التاريخ بعيدا عن الانتظام الزماني في ضبط تسلسل الاحداث التي يكتنفها الزمن بانضباط عالي يحكمه التاريخ كتحقيب زماني يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية المتداخلة مع انتقالات الزمن من الماضي الى الحاضر والى المستقبل. الحقيقة الزمن لا ينتقل حسب رغائبنا، بل انتقالات النفس والاستذكار لدينا تنتقل من حالة لاخرى والزمن ثابت.
ميزة الذاكرة في تعبيرها عن السرد التاريخي التوثيقي تكون أكثر صدقية من محاولة الخيال التعبير عنه، فبالخيال يتم الاسقاط الوهمي، وغير المتوقع، غير الحاصل على هذا السرد المحكوم بسلطة تنظيم الزمان لوقائعه تاريخيا بما لا تستطيع تلك الحوادث الخلاص والانفكاك من سطوة الماضي عليها.
نحن لو تحرينا الصدق والامانة في تعبير الذاكرة عن تاريخية الماضي كسردية، وتعبير الخيال عن تلك السردية رغم أن الخيال بطبيعته هو تعبير جمالي فني، لوجدنا التداخل بينهما على أشده في تعبيرهما الانتقالي عن الماضي كتاريخ سردي نوعي متمّيز روائيا في حال جرى التوظيف النقلي على وفق أطر وأنساق ومواصفات فنية جمالية نجدها تدفن ما ليس قابلا للانسجام الفني الادبي من وقائع هي من إختصاص تاريخي سردي توثيقي صرف.
الخيال يتمثل التاريخ الماضي دراما حقيقية في تعبيره الخيالي عنها إسقاطا فنيا، وهذا لا يمنح الذاكرة تفويضا مفتوحا في أنحيازها للصدق النقلي التمثلي ذاكراتيا لوقائع وأحداث يحكمها الزمن الماضي. تمنع الخيال دخوله المزارع الخاصة بالذاكرة.
كيف نميّز بين صدقية الذاكرة من صدقية الخيال في نقلهما دراما الماضي ليس كسردية تاريخية بل كدراما ممكن التلاعب بها لمقتضيات فنية مستلهمة من الماضي كتاريخ؟ كلاهما الذاكرة والخيال لا يمتلكان الصدقية التامة في التعبير النقلي لوقائع التاريخ منفردين ولا حتى متكاملين لاسباب تتعلق بأن السرد التاريخي يمتاز بصفات من الواقعية الاركيولوجية التي تجعل من الذاكرة والخيال التعبير الخالص التام عن تلك الوقائع مشكوكا به ناقصا أو مشوّها.
المخيلة تحتاج الذاكرة، والذاكرة تحتاج الخيال، لذا أذا أردنا توّخي الجمالية الفنية في نقل وقائع التاريخ دراميا، نكون بحاجة الى تمرير الاندماج المتكامل بينهما، فالذاكرة لا تنقل دراما التاريخ الماضي بإسلوب السرد الذي تحكمه الوقائع ولا تستطيع هي التحكم فيه، ويوجد فرق كبير بين السرد الروائي الخيالي عن السرد التاريخي الواقعي.
لذا نصبح أمام قبول حقيقة تفرض نفسها أن الذاكرة ليس بمقدورها نقل دراما التاريخ الماضي بنوع من السرد التوثيقي أكثر من حفريات الاركيولوجيا الذي هو من مهام عالم التاريخ والاثار والانثروبولوجيا التي تقف معها الذاكرة عاجزة عن مجاراة تمثيل منطق الحفر الاركيولوجي التاريخي. فالواقع على الارض يكون والحالة هذه يدمغ كلا من الذاكرة والخيال بالابتعاد التام عن مشغل حفريات التاريخ بما هو تدوين توثيقي صادق مصدره الاساس التنقيبات الحفرية وليس التنظير الفلسفي. كل ما يتم التعبير عنه كادراك لغوي لا ينجو من إستهداف القصدية السيئة له. التي تحاول صهر حوادث التاريخ بسبيكة تجمع الحاكم كسلطة تعلو التاريخ ورغبته تدخل على تجيير مصداقية الوقائع التاريخية له.
قصدية إدراك وقائع الماضي إستذكارا صادقا محايدا لا ينجو من السطو السلطوي الحاكم الذي يرغب جعل نقل أصالة التاريخ مطواعا لتمرير كل سوءات ومظالم حاكمية سلطة الحاضر الجائرة. يعبر بول ريكور عن هذه الازدواجية قوله "الذاكرة مهددة بشكل كلي في أستهدافها الصادق للحقيقة عن طريق سوء الاستعمال"7.
***
علي محمد اليوسف/الموصل
......................
الهوامش
1. بول ريكور/الذاكرة، التاريخ، النسيان/ ترجمة وتقديم د. جورج زيناتي/ ص52
2. نفسه نفس الصفحة
3. نفسه نفس الصفحة
4. نفسه ص 65
5. نفسه ص 74
6. نفسه ص 103
7. نفسه ص 109