آراء
مصطفى غلمان: في صِدَامُ الأَجْيَالِ مَعَ مَنْظُومَةِ الفَسَادَ والرِّيْعِ

تتدحرج علينا اليوم صورٌ مفصَّلة من حراكٍ شبابي لا يشبه أيّ سابقاته، ليس لأن صوته أعلى أو أسلوبه أكثر ضوضاءً فحسب، بل لأن مطالبَه تُعيد تركيب المعيار الوطني. إنها ليست صرخةٍ ضد فقرٍ معيشيٍ آتي أو بطالةٍ عابرة فحسب، بل هي فعلُ رفضٍ لِما تحوّل إلى شبكة مصالحٍ تُطفئ حسّ المواطنة وتُجهد معنى العدل.
هنا، لا نقف أمام صراعٍ بين أجيالٍ فحسب. بل أمام تلاقٍ صارخ بين وعيٍ اجتماعيّ جديد، يطالب بالكرامة اليومية، وبين طبقات زادت ثروتها في ظلّ هشاشة المؤسسات، حتى صارت "الأغلبية الحكومية" الذين يلبسون عباءة الدولة مجرد قنطرةٍ لتمرير الريع والامتياز.
الحراك الشبابي بهذا المعنى، ليس ثورةً على الأشخاص فحسب، بل هي رفضٌ لمنطقٍ مؤسساتيٍ اختلّ. وهي تُذكّرنا بأن الشرعية لا تُقاس بشارات ولا بترتيباتٍ سياسيةٍ مؤقتة، بل بقيمةٍ تقيّمها حياة الناس اليومية، كجودة الخدمات وعدالة المنافع ونزاهة القضاء وشفافية القرار ورعاية الكرامة. حين يتهاوى هذا المعيار تغدو الدولة خانةً فارغة يملؤها من يشاء.
بعد ذلك، نتساءل: ما الذي يجعل الشباب ينهض ضدّ الحكومة؟ الجواب يتأتى من عدة أوجه متداخلة. إحساسٌ متزايدٌ بالغبن، رؤيةٌ متخطية للزمن الحزبي التقليدي، ووسائل اتصالٍ رقميةٌ تُعيد تشكيل الرأي العام خارج البنى الحزبية والمصالح العتيقة. فالشباب اليوم لا يطلب مجرّد إصلاحٍ تقنيٍّ، إنه يطالب بإعادة تأسيس المعنى الاجتماعي للدولة كمجالٍ للكرامة والتوزيع العادل لا مجالٍ للاحتكار.
وتأتي ضرورة قراءة هذا الحراك بوصفه منبّهًا استراتيجيًا، إذا كانت المؤسسات ستردّ بالعنف أو بالزجّ في منطق التهميش والاستنقاص، فسيكتمل تآكل الثقة. أما إن استجابت بما يليق، فإنّ فرصة التجديد قائمة، ليس تجديدًا تجميليًا، بل تحويلًا جوهريًا لمسارات السياسات الاقتصادية والاجتماعية والحكامة.
لكن لا يكفي أن نقول إنّ الشباب على حقّ والسلطة على خطأ. فهناك امتحانٌ أخلاقي يطال الجميع، من المثقفين والنخب الدينية والفاعلين المدنيين، والممسكين بمفاصل القرار. يتعلّق الامتحان بقدرة هذه الأطراف على قراءة الدلالة الأخلاقية للحراك، وتحويلها إلى سياساتٍ ملموسة تحفظ الكرامة وتفتح فرصًا حقيقية للعدالة. هذه مسؤولية لا تحتمل المقولات السقيمة عن الشرعيات المصلحية أو عن استدامة تقاليدٍ لا تخدم أحدًا سوى نخبٍ معزولة.
فضلاً عن ذلك، على خطاب الإصلاح أن يتحلّى بصدقٍ نابعٍ من أخلاقيات التوبة والتغيير. فلا إخفاءٌ للملفات، ولا تجميلٌ للوقائع، بل حوارٌ علنيٌّ مع المجتمع، وإجراءاتٌ مؤسساتية قوية تُعيد المال العام إلى مستحقيه، وتُعيد للمواطنة مقوّماتها.
الإصلاح لا يكتمل إلا بإرساء منظومة عدالة متجانسة، تضمن مساءلة الجميع بلا استثناء، وربط الاستحقاق بالقدرة والكفاءة والخدمة العامة.
إن حراك الشباب تذكرنا بأنّ العقد السياسي لا يصمد إن لم يكن مبنيًا على ثِقل العدالة والاحترام. وما لم تُقرأ هذه المطالب قراءةً جدّية، فإنّ الفجوة ستتعمّق، وسيبقى الحراك نبضةً تهزّ الواجهة، لا محركًا لتحوّلٍ مستدام. أما إذا استُغلت الفرصة لتأسيس قطيعةٍ حقيقية مع منظومة الريع والفساد، فسيكون هذا الجيل شاهداً على ميلاد معنىٍ جديدٍ للوطن، واحدٍ لا يُقاس إلا بمدى كرامةِ أُسَرِه وأبنائه.
***
د. مصـطـفــى غَـــلمـان