تجديد وتنوير
ابتهال عبد الوهاب: التفكير المستقل.. المعركة الخفية للعقل
العقل ليس خزانة نكدس فيها الكتب ولا مخزنا نرص فيه أفكار الفلاسفة وأحلام الشعراء، ومقولات الأدباء. بل هو نهر لا يعرف الثبات، يجري ويغير مجراه كلما اصطدم بحجر الحقيقة أو صخرة الشك. إن كثرة القراءة لا تصنع وعيا بالضرورة، فالذي يقرأ ولا يفكر كمن يشرب البحر عطشا، لا يزداد إلا ملحا في حلقه، أما المعرفة الحقيقية فليست في عدد ما نحمل من المقولات والاقتباسات، بل في قدرة العقل على أن يواجه ذاته والكون بلا وصاية ولا قيد. فالقراءة، مهما بلغت كثرتها، لا تمنحنا وعيا حقيقيا إذا لم تصحبها إرادة للفهم الحر
إن امتلاكنا الحق في التفكير المستقل هو أعلى أشكال الحرية الإنسانية، لأن العقل إذا لم يتحرر من ثقل الموروثات وسلطان الرأي السائد صار أسيرا لماض لم يختره، وسجينا لآراء لم يولدها بنفسه. عندها تتحول المعرفة إلى قيود أنيقة، ونصير مجرد صدى لأصوات بعيدة لا نعرف جذورها ولا نلمس حقيقتها.
لكن الطريق إلى هذا الاستقلال ليس مفروشا باليقين، بل بالأسئلة والشكوك والمغامرة. إن الرأي المستقل لا يولد إلا في رحم الجدل، حيث تصطدم الفكرة بنقيضها، وحيث تختبر البراهين وتحاصر المعتقدات حتى تكشف عن حقيقتها أو تنهار. هنا فقط ينفتح الباب أمام التوالد الفكري، أمام لحظة الخلق العقلي التي تضع الإنسان في مواجهة ذاته والعالم معا.
فالحرية العقلية لا تتحقق بلا ثمن فهي مغامرة محفوفة بالمخاطر. فالعقل الحر لا يسير على دروب ممهدة، بل يقتحم مناطق الشك المظلمة حيث تتصارع الفكرة ونقيضها، وحيث تختبر البراهين وتتهاوى المسلمات. هناك فقط، في أتون الجدلية، يولد الرأي المستقلّ: لا بوصفه يقينا نهائيا، بل باعتباره مرحلة في رحلة لا تنتهي من البحث والاكتشاف.
أما حين يعجز العقل عن الفهم، ويتراجع عن مواجهة المجهول، تتقدم العاطفة لتملأ الفراغ، وتظهر الأحكام المسبقة لتقيم ممالكها فينا. نرفض ما لا نفهمه رفضا أعمى أو نقدسه تقديسا أعمى، وفي كلا الحالتين نصير عبيدا لجهلنا. هناك، حيث يسود الجمود، تموت الفلسفة، ويتحول الفكر إلى طقس جاف يردده الناس كما يرددون تعاويذهم القديمة
الفلسفة، في جوهرها، ليست سوى جرأة الوعي: أن نختبر كل شيء، أن نحتفظ بحقنا في الشك، أن نحيا في حضرة السؤال لا في عبودية الجواب. فالعقل الذي يجرؤ على الحيرة أقرب إلى الحكمة من عقلٍ يحتمي وراء قلاع اليقين الجاهز.
الفلسفة لا تطلب منك أن تعرف كل شيء، بل أن تجرؤ على السؤال، أن تجرد العقل من وصاياه، أن تقف على تخوم المجهول بلا خوف، وتحتفظ لنفسك بحقك المقدس في أن تقول: "لا أعلم"، وبحقك الأعظم في أن تفكر وحدك، حتى وإن خالفت العالم بأسره.
***
ابتهال عبد الوهاب






