تجديد وتنوير

ابتهال عبد الوهاب: رسالة من خارج أسوار اليقين

كفوا عن الركوع لمدارس الوهم؛ مدارس "حدثني ثقة" و"جاء في الأثر" و"أثبتت الدراسات" و"أجمع العلماء".. و"قال السلف" وأفتى الإمام.  تلك المعابد التي تصنع يقينا زائفا وتسور به العقول لتمنع عنها ضوء الحقيقة.

لقد صارت العنعنة هذا التسلسل اللامتناهي من عن فلان عن فلان. سلاسل خفية حول العقل تقمع بها الأسئلة وتستعبد بها العقول كأن الحقيقة لم تخلق لترى، بل لتحكى عبر وسطاء لا يسمح بتخطيهم.

إنها مصانع كبرى لإنتاج أجيال من المؤدلجين والمغيبين عقول تقدس الخرافة وتضعها على عرش الحقيقة، بينما الحقيقة نفسها تساق إلى المحرقة في صمت. هناك، في هذا الفضاء المسور باليقين الجاهز لا مكان للشك، ولا فسحة للتساؤل، ولا مجرد فرصة لأن نرى العالم بعيوننا قبل أن نراه بعيون غيرنا.

لكن رحلة العقل، في جوهرها، ليست رحلة طمأنينة بل رحلة هدم. والهدم هنا ليس عبثا، بل هو فعل تطهير.

 أن تهدم ما شيدوه فيك من أوهام حتى ترتفع على أنقاضها نافذة جديدة تطل على اتساع الكون. الشك هو النفس الأول للوعي، والوعي نفسه ليس أن تكثِر مصادر المعرفة، بل أن تملك حريه الدخول في صراع معها، أن تجرؤ على زلزلة اليقين حين يصبح اليقين جدارا عازلا بينك وبين الحقيقة.

الوعي لا يولد في حضن الطمأنينة، بل في رحم الشك. هو تمرد العقل على وصاية الموروث، وهو المطرقة الأولى التي تهدم جدران الخرافة. الوعي ليس كثافة المعرفة، بل حريتها.. أن تجرؤ على النظر خلف النصوص، أن تضع المقدسات تحت المجهر، وأن تؤمن بأن الحقيقة لا يؤسسها سوى الصراع معها.

غياب الوعي لا يعني غياب الفكر، بل يعني هيمنة فكر واحد أريد له أن يكون سورا يحجب عنك احتمالات العالم. وما وراء السور حياة أخرى؛ هناك تتكشف الطبقات المخفية من المعنى، هناك يبدأ الإنسان في أن يكون إنسانا.

احذروا اليقين الجاهز فكل يقين جامد قبر صغير للفكرة. واختاروا درب الشك. ذلك الدرب الوعر الذي لا يسلكه إلا القلة التي ترفض النوم في حضن القطيع. فالذين يملكون شجاعة التفكير هم وحدهم الذين يغيرون مسار التاريخ.

وحرية المعرفة هي المعنى العميق للإنسان الحر. أن تتجرد من الأحكام المسبقة، أن تقف أمام الفكرة بلا خوف، أن تدرك أن الحقيقة لا يملكها أحد ولا يورثها نص ولا يحرسها حارس.

وما الوعي إلا شجاعة مواجهة الذات قبل مواجهة الآخرين أن تضع مقدساتك على الطاولة، وتعيد النظر في مرجعياتك، وتدرك أن الأفكار التي تبدو أبدية قد تكون مجرد غبار متراكم على نافذة الروح.

يا رفاق الطريق.. الوعي ليس ترفا فلسفيا، بل هو فعل تحرر. إنه إعلان تمرد على اليقين المعلب، وخطوة أولى نحو عالم يتنفس فيه العقل بلا قيود. والقله التي تختار هذا الدرب والتي تتقن فن الشك، هي وحدها التي تغير مسار التاريخ لأنها وحدها تمتلك الشجاعة لتقول: لا في وجه من قالوا نعم.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم