تجديد وتنوير

حيدر شوكان: التجاوز والمحظور.. مفارقة النقد في الأديان والثقافات

تبدو حدود النقد في المجال الدينيَّ وكأنَّها تتحرك وفق منطق خفيّ لا يخضع دائمًا لقواعد المعرفة بقدر ما ينصاع لحاجات الهوية وآليات حفظ الذات. وإِلَّا فالنقد- بمنطق المعرفة- وهو ضرورة عقلية ودينية وأخلاقية، فالعقل، حين يتقدم نحو تفكيك تراثه الداخلي، يُستقبل في الغالب من قبل الآخر (الدينيَّ، السياسيَّ، الاجتماعيَّ، الاقتصاديَّ) بوصفه صوتًا إصلاحيًا يسعى إلى ترميم الحقيقة من داخلها؛ لكن هذا العقل النقدي نفسه، ما إن يمدّ بصره إلى آفاق الأديان أو الجماعات الأخرى، حتى تتحول مبادراته إلى فعلٍ "متجاوز" أو " منفلت" أو " متخطي" يهدد ما تراكم من قداسة ورمزية وحدود غير مرئية لأصحاب هذه الأديان والثقافات. من دون بصيرة بأنّ النقد حين ينكفئ على الذات (الدينيّة أو المجتمعية أو السياسية) فقط يتحول إلى جلد للنفس وحين يتجه إلى الآخر وحده يغدو تعصبًا. أمّا حين يتسع لكليهما فإنّه يثمر وعيًا يحرر ولا يقصي ويمنحنا قدرة أعمق على فهم منطق التعدد وتاريخ الخطأ والصواب في تراثنا المشترك.

في قلب هذه المفارقة يحدثنا محمد أركون عن التجربة التي حصلت معه، يقول:" إن مثال نقد العقل الإسلاميَّ الذي أقوم به يوضح بكل جلاء أنَّ المسيحيين واليهود يصفقون بكل حرارة لهذه المحاولة ما دامت محصورة بتفكيك أصول هذا العقل. ولكنهم سرعان ما يصبحون عدائين إذا ما أراد " مسلم" ما أنّ يوسع من حدود هذا النقد: أقصد إذا ما تجرأ على التدخل في شؤون الدينين اليهودي والمسيحي للذين لا يمكنه إِلَّا وأن يجهلهما بالضرورة (بحسب رأيهم) هكذا أضرب هنا مثالا محسوسا ودقيقا تماما: إذ حتى رفيق دربي الطويل الأب كلود جيفري يبدي هنا تحفظات أفهمها ولكنني أرفضها علميًا1"

إنَّ المفارقة التي يلمح إليها محمد أركون في هذا النص ليست انطباعًا عابرا، وإنما هي بنية نفسية– اجتماعية عميقة تتكرر كلما حاول عقلٌ ما أنّ يخرق الحدود التي رُسمت له بعناية عبر الأزمنة. فالتجربة التي عاشها أركون، ودوّنها بهذه الصراحة، ليست سوى نموذج مكثّف لما تعيشه العقول التي تعتزم مساءلة الأطر التي صارت بمرور الزمن بمثابة "مساحات مقدّسة" "وتابوات" يُحرَّم الاقتراب من تخومها أو مساءلة شرعيتها.

فالمرء المسلم، إذا انخرط في نقد تراثه الدينيّ الداخلي- سواء كان مسلمًا شيعيًا أو سنيًا- سيجد تصفيقًا حارًا من الضفة المقابلة. سيُحتفى به بوصفه "مستنيرًا"، جريئًا، متقدما على أبناء ملّته. فالسني سيجد في الشيعي الناقد لتراثه علامة على التعقل والحداثة، والشيعي سيقرأ السني الناقد لتراثه بوصفه نموذجًا على الشجاعة الفكرية ومقاومة الجمود. إِلَّا أنّ هذا الاحتفاء سرعان ما يتبدد لحظة يتحوّل النقد من الداخل إلى الخارج، من نقد الذات إلى نقد الآخر. عند تلك اللحظة، يتخذ المشهد منحى مختلفًا: تُستدعى الخطوط الحمر برموزها، وتُستعاد لغة القداسة بهالتها، ويعلو الصوت بأنّ "هذه المساحة لا يجوز الاقتراب منها".

إنها إذن مفارقة تكشف أنّ الأطر الدينية- كما غير الدينية- لا تُنتج فقط منظومات للمعرفة، بقدر ما تُشيّد أيضًا أنظمة حساسة للهوية والهيمنة والتمثيل. فليس الممنوع هو النقد في ذاته، وإنما النقد الذي يمسّ حدود "المساحة الخاصة" للجماعة؛ تلك المساحة التي تُصاغ رمزيًا على أنَّها الامتداد الطبيعي للإرادة الإلهية، أو الامتداد التاريخي للحقيقة الموروثة التي لا يحق لغير أبنائها مساءلتها والتأمل فيها.

وهكذا تتجلّى المفارقة التي تنحتها التجربة البشرية في كل سياق معرفي: الكلّ يشجّعك على نقد الآخر، لكن لا أحد منهم يريد أنّ يرى مرآته مرفوعة أمامه لينظر حجم المفارقات والتجاعيد والهالات والتصدعات فيه. الكلّ يرحّب بأن تُعرّي التصدّعات في جدار غيره، أما الاقتراب من جدار الجماعة والملة فمحرم، لأنّ كل جماعة- دينية أو مذهبية أو فكرية- تخشى أنّ ترى تهافتها أو هشاشتها بوضوح، وهذا ما كنت أقوله دائمًا مع طلابي بأنَّ النقد مروع للذات- الشخصية أو ذات الجماعة.

ويمكن تناوش وتمظهر هذه الظاهرة تاريخيًا في ملفات مختلفة: ففي الإسلام، استُقبل نقد المعتزلة- من قبل بعض اتجاهات الاستشراق- للتيارات النقلية بوصفه محاولة إصلاح داخلي للعقل الإسلاميَّ، بينما انقلبت الاستجابة إلى رفض واتهام ما إن حاولوا مساءلة أصل الظاهرة الدينية في الأديان من كثرها بدائية إلى أكثرها تطورًا وتعقلًا. وكذلك موقف ابن خلدون؛ إذ قبل الآخر نقده للطبقات التاريخية للمسلمين لأنّه ظل ضمن إطار معرفي حضاري داخلي، بينما كان نقده للأمم الأخرى أقل قبولاً.

وفي التاريخ المسيحي، يحتفى-من قبل بعض المسلمين- بسبينوزا عندما يضع "الكتاب المقدس"، وتاريخ المعتقد اليهودي والمسيحي على محك النقد، ويحاول موضعته وتفكيكه، بينما يقل هذا القبول عندما يتناوش التجربة الإسلاميَّة من خلال العصر التركي2.

وفي اليهودية، فقد استُقبل نقد موسى بن ميمون للتراث العقلي باعتباره فلسفةً دينية مشروعة، لكنَّه تعرض للرفض والاتهام بالزندقة حين توسع نقده إلى تصورات أساسية للذات الجماعية اليهودية، مما اضطر كتبه إلى الاختفاء لفترة طويلة.

وفي العالم المعاصر، نرى نفس النمط: الغرب يرحّب بنقد الفكر الإسلامي لأنه يعزز تفوقه الرمزي، لكنّه يرفض النقد حين يمتد إلى المساحات المؤسسة في المسيحية أو العقل الليبرالي الحديث. وهكذا، يجد محمد أركون تصفيقًا حارًا عند نقده للعقل الإسلاميّ، ويواجه عداءً عند نقده للعقل اليهودي أو المسيحي.

وهذه المفارقة، بما تنطوي عليه من تداخل والتباس بين الهوية والمعرفة والحقيقة، هي في واقعها بنية راسخة ينبغي تحليلها كلما أردنا فهم حدود النقد ومحدداته، وما يُسمح للعقل أنّ يراه، وما يُجبر على غضّ النظر عنه.

تكشف المفارقة التي يشير إليها محمد أركون يمكن النظر فيها على أكثر من جانب، فهي من الناحية الفلسفية، تتأسس جذورها على صراع قديم بين تصورين للحقيقة: الحقيقة بوصفها قيمة إنسانية كونية قابلة للفحص والنظر وإعادة النظر، والحقيقة بوصفها ملكية جماعية تحتكرها كل طائفة وتغلفها بالقداسة. وعندما ينخرط المرء في نقد تراثه الداخلي، فإن الآخر يرى في ذلك سعيًا لترميم الحقيقة وإعادة إنتاجها، لا تهديدًا لها. أما حين يصدر النقد من خارج الحدود إلى الداخل، فإنه يتحول إلى طعن في امتياز الجماعة واحتكارها للمعنى، لأنه يكشف ما تراكم حوله الصمت ويقوّض ما تم ترسيخه بوصفه "يقينًا". هنا يصبح نقد الخارج اعتداءً على الهوية لا مجرد اعتراض معرفي.

وأيضا يمكن التأمل في ذلك من زاوية نفسية، إذ تتصرف الجماعة كـ "أنا جمعية" تمتلك حدودًا حساسة حيال أي اختراق خارجي. فالنقد الداخلي يُستقبل بوصفه فعلًا إصلاحيًا يشبه عتاب الذات أو مراجعتها، بينما النقد الخارجي يُستقبل باعتباره تهديدًا يكشف العيوب أمام الآخرين. إن الجماعة تعمل وفق آليات دفاع تشبه ما لدى الفرد: إسقاط، إنكار، تحصين. فهي تحتمل أنَّ يرى أبناؤها خللها، لكنّها لا تحتمل أنّ يُعرّيها غريب. ولذلك يصبح ما يُقال من الداخل "جرأة محمودة"، وما يُقال من الخارج "عدوانًا" حتى لو كان المحتوى واحدًا في الحالتين.

أما في أفق الاجتماع، فإن الجماعة تمتلك رأسمالًا رمزيًا متراكمًا عبر التاريخ: منظومات من الرموز، الروايات، الطقوس، السرديات، والشرعيات. والنقد الداخلي يُعدّ محاولة لإعادة صقل هذا الرأسمال وترميمه، بينما النقد الخارجي يهدد مكانة الجماعة أمام غيرها لأنه يعرض هذا الرصيد للتشكيك والاهتزاز. يلمح بيبر بورديو- عالم الاجتماع الفرنسي- في المقابلة التي أجريت معه ونشرتها مجلة الفكر العربي المعاصر في العدد (3) إلى أهمية الرأسمال الرمزي في المجتمعات ما قبل الصناعية أو ما قبل الرأسمالية. وقال بأن ارتباط هذه المجتمعات بكل فئاتها برأسمالها الرمزي هو ارتباط عضوي جسدي، وإنه مسألة حياة أو موت. وسوف تبقى كذلك ما دام رأسمالها المادي لم يتطور بشكل صحيح، وما دام الفقر والجوع والحروب تهددها باستمرار.

لذلك نرى الجماعات تحتفي بمن ينتقد الآخر، لأنّه يكرّس تفوقها الرمزي، لكنّها وفي اللحظة نفسها تستنفر كل آلياتها الدفاعية حين يمتد النقد إلى مساحتها الخاصة.

ومن منظور سوسيولوجي، فإن المفارقة متجذّرة وساكنة في بنية "سياسة المعرفة" التي تتحكم في اشتغال الجماعات. فكل جماعة تنتج معرفتها الخاصة عن نفسها ومحيطها وتُسورها بجدار من المؤسسات الخطابية والعلمية التي تمنح هذه المعرفة شرعية الاستمرار. وعندما يأتي النقد من أحد أبناء الجماعة، فإن النظام يسمح له بالاقتراب من "مركز الحقيقة" لأنه ما يزال يتحرك ضمن قواعد الحقل نفسه. لكن حين يأتي النقد من الخارج، فإن الحقل المعرفي يغلق أبوابه لأنّه يرى في هذا النقد محاولة لاختراق حدوده وتغيير قواعد اللعبة. وهنا يصير رفض النقد جزءًا من آلية إعادة إنتاج السلطة المعرفية.

وهكذا تتضح المفارقة: الجماعات تفتح أبوابها للنقد حين يكون وسيلة لترميم الذات لا لتهشيمها وتمزيقها وتعريتها، لكنّها تغلقها بإحكام حين يكون وسيلة لكشف ضعفها أمام الآخرين. إنها بنية ليست حكرًا على دين دون آخر أو مذهب دون آخر، بقدر ما هي سمة إنسانية تتكرر في علاقة السنة بالشيعة، وفي علاقة الأديان الثلاثة بعضها ببعض، وفي علاقة المدارس الفكرية الكبرى، بل وفي داخل الأكاديميا والحقول العلمية نفسها. فحيثما وُجدت جماعة ولهوية وذاكرة وسردية "مقدسة"، وُجد معها حدّ غير مرئي لا يُسمح بتجاوزه إلَّا من الداخل، لا من الخارج. مع ملاحظة أن هذا الداخل إن كان عنيفا، فان نقده ربما يخلعه ويخرجه من الأسوار ويدفع به إلى الخارج. فتعريةُ الذات نقديًا أخطرُ وأكبرُ جريمة يمكن أنّ تُرتكب بحق الذات والجماعات.

***

د. حيدر شوكان السلطانيَّ

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة- قسم الفقه وأصوله.

.....................

1- محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي- بيروت، الطبعة الرابعة- 2010م، 56- 57.

2- صورة التراث الإسلاميَّ عند اسبينوزا مأخوذة من العصر التركي، حتى ليتحدث عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين، وهي صورة الطغيان الفكري، والتعصب الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، والوقوع في الخرافة. ينظر: مقدمة حسن حنفي، سبنوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، الناشر: دار التنوير- بيروت، الطبعة الأولى- 2005م، 7.

في المثقف اليوم