تجديد وتنوير

كريم الوائلي: من الطاعة إلى الحرية.. مساءلة العقل التابع

لا يختلف مفهوم الطاعة عن دلالته اللغوية كثيرا، فهو يعني التسليم والانقياد، وتقترن الطاعة بالعبادة، ولكن الطاعة أعم وأشمل، والعبادة أخص، وقد تكون الطاعة سلوكا فرديا يؤديه الإنسان لله، أو طاعة لأبويه، أو من لهم مكانة محبة في نفسه، ولكن الطاعة منظومة ثقافية تأصلت على أساس من تراكماته المعرفية والسلوكية التي تمتد الى عمق التاريخ، وقد ترسخت في بنيات الوعي الجمعي، ومن ثم أصبحت إحدى العلامات الدالة على القيمة الاخلاقية التي يتحلى بها فرد أو مجموعة أو حزب أو كيان، ولكن الطاعة اصبحت عبئا ثقافيا يحد من فاعلية الانسان ويسلبه حريته ويعطل إمكاناته الفكرية والابداعية.

وقد لا نختلف كثيرا إذا أكدنا أنَّ الطاعة لها حضورها القوي في الفقه الإسلامي، وفي مجمل الخطابات الدينية، ولم يقتصر ذلك على الدين فحسب، بل اصبحت الخطابات السياسية دافعة الى التقيد بها والاخذ بأسبابها، بمعنى أنَّ الطاعة ليست سلوكا فطريا، وليست اداء بريئا، ولكنها طريق ممنهج الى ترسيخ التسليم والاستكانة لصياغة الإنسان، كي يتماهى مع السلطة ويعيد انتاج افكارها وتصوراتها، واكثر من هذا يدعو اليها وينفذ تطبيقاتها على أجيال لاحقة.

ويتميز العقل العربي بنفوره من تحمل المسؤولية الفردية، ويميل كثيرا الى الاندماج الكلي بالجماعة والوعي الجمعي، إذ تتشكل أفكار الإنسان وسلوكياته عبر هذا المحيط الجارف، على الرغم من انه لا يؤمن بما تمليه الجماعة أو الوعي الجمعي عليه، ويجنح ـــ غالباـــ الى ما يمكن تسميته " بالاتكالية على الاخر": فقيها، أو حاكما ،أو أبا، أو شيخا، أو نصا، الامر الذي يقود بالنتيجة الى التماهي بين سلطة الاخر الفقيه والأب من ناحية وسلطة النص من ناحية أخرى.

ولما كان النص يمثل مركزية مهمة في الوعي العربي الإسلامي، لان ثقافتنا ثقافة نص أساسا، فلذلك يتم هذا التلاحم مع التأويلات الدينية ـــ واغلبها سلفية ــــ وتصبح الطاعة جزءا من البنية الثقافية والسلوكية للإنسان الفرد، والجماعة، والطائفة، والحزب، ونحو ذلك.

ولما كانت ثقافتنا ثقافة نص ـــ كما أشرنا ـــ فأنها في الوقت نفسه ثقافة تابعة تقدس الماضي ورجالاته وسلوكياتهم ونصوصهم، ولان كثيرا مما يفرضه الاخر الحاكم والفقيه والأب، اصبحت له قدسيته، لذا وجب التقيد بالتابعية لهم في كل شاردة وواردة، ومن هنا جاءت فكرة " السمع والطاعة للحاكم وان جلد ظهرك وسلب مالك" وان تجاهد تحت امرته وان ارتكب الموبقات، وهذه الثقافة ترسخت في الوجدان العربي ولا يمكن التراجع عنها، وإنْ لم تصبح الطاعة خيارا فرديا فإنها تصبح فرضا تمليه السلطات الدينية والسياسية، والاجتماعية.

إنَّ الاجيال تتناسل وتتوالد وكأنها تحمل في جيناتها ذات الافكار السالفة، وتصر على تطبيقها، على الرغم من التغيرات الخارجية التي توهم بالانفصال عن الماضي، ولكنها في العمق تبقي كل شيء على ما هو عليه دون تغيير.

ويتحول الإنسان العربي الى مجرد متلق سلبي مطيع، ويقابله ويتحكم فيه: الفقيه العالم، والشيخ العارف، والاب المستبد، ويندمج المتلقون السلبيون (المطيعون) ضمن كتلة واحدة (تُؤمِّن) ـــ تقول آمين ـــ على ما يقوله الفقيه والشيخ والأب، ولذلك تجلت في مجتمعاتنا صوره الحاكم الفرد الراعي، ويقابله الرعية: الشعب (المطيع) القطيع.

وليس من قبيل المصادفة ان تتواطئ المؤسسة السياسية العسكرية أو شبه العسكرية غالبا مع المؤسسة الدينية، ويقود هذا الى استبداد مطلق، يغلق كل المنافذ امام محاولات الإنسان للخروج من شرنقة الانصياع والتسليم والطاعة المطلقة، واذا كان هناك في احد طرفي المعادلة استبداد السلطتين السياسية والدينية، فان هناك في المقابل خضوع بقناعة للقطيع.

ولن اكون مبالغا اذا قلت: إنَّ نزعة الاتكالية في العقل العربي اسهمت بشكل فاعل في تراجع التقدم الإنساني، وعطلت فاعلية الإنسان والمجتمع، وقدمت نماذج وهمية للخلاص، وهي نماذج خرافية في كثير من الأحيان، وبهذا فان الخروج من هذا المأزق يقتضي تحرير مفهوم الطاعة من كونه موضوعة ـــ ثيمة ـــ تعني الانقياد والاستسلام، ومن كونها عامة وجامعة، الى فردية وخاصة، وقبل هذا كله لابد من انتزاعها من قدسيتها الى افاق رحبة جديدة، تقود الى المساءلة والحوار، وليس التسليم والانغلاق.

***

د. كريم الوائلي

في المثقف اليوم