قراءات نقدية
عبد المجيب رحمون: موت الباحث أو البعث من جديد
 
			وأنا أتابع صفحة للمترشحين لسلك الدكتوراه، لفت انتباهي طلب إحدى الباحثات يتعلق برغبتها في الحصول على نموذج لتقرير يخولها تقديم مشروعها العلمي. سؤال كبير وإشكال عميق يرتبط بهذا الأمر وهو بكل بساطة كيف لنا أن نترشح لسلك الدكتوراه ولا نحسن كتابة تقرير ؟ هل يمكن لنا أن نتبنى أفكار بعضنا البعض؟ هل الفكرة ملازمة لشخصها أم هي قابلة للانتقال رغم تغيير الأسلوب؟ كان هذا محور جوابي فانهالت علي الانتقادات والقليل من أيقونات الإعجاب.
أربأت نفسي عن جدال عقيم، رغم أني غير مقتنع بذلك، لكن ونحن نمارس الإقناع يجب أن يكون ذهن المتلقي والسامع مؤهلا فيما يسميه "محمد مشبال" بالحجاج الاقتناعي وبما أننا أمام صفحة افتراضية يضعف دور النسق والسياق الذي يحكم الخطاب كما يتوارى المقام وتتلاشى الوظائف اللغوية والنصية، هنا يمكننا أن نتحدث عن بلاغة رقمية كما دعى إليها "محمد بازي" في صياغته الفريدة لأنموذج تناغم الخطاب.
تأسيسا على ما سبق هل نجازف بالإعلان عن موت الباحث؟ ليس بالمفهوم الفلسفي للموت كما تحدث عن ذلك "نيتشه"، أو بالمفهوم النقدي البنيوي كما وظفه "رولان بارت" في قراءته للنص وإنما بمفهوم الناقد البريطاني "رونان ماكدونالد"؛ في كتابه "موت الناقد"؛ إنه موت رمزي حيث تراجع دور الناقد الأكاديمي وصعود قارئ غير متخصص يقوم بعملية التقييم للأعمال الإبداعية لقد تلاشى دور الناقد ضمن منظومة الإبداع الذي ما فتئ يسعى ويتلهف إلى مصادقة النخبة المثقفة، كما توارى دور الباحث وتولى إلى الظل واستكان وقال لاطاقة لي بالبحث، وأصبح يتلمس أيسر الطرق وأسهلها في مساره البحثي فغدا متقاعسا متهاونا متكاسلا. هنا يترادف الموت مع توقف الحركة ونبض الحياة كما تعني النهاية والعدم، لكن ألا يمكن لنا استحضار مفهوما آخر للموت كما تبلور في الشعر العربي المعاصر من خلال أسطورة العنقاء، حيث مثل الموت البعث من جديد، وهنا نعلن تكوين جنين الباحث ونموه طبيعيا إلى أن يستوي قائما ونقصد هنا بالموت الحياة من جديد، نموت في تحمل نفقات الكتب والمطبوعات، موت في الصبر على القراءة، موت في شد الرحال إلى المكتبات الوطنية والدولية، موت في تتبع الندوات والمؤتمرات والملتقيات، موت في امتصاص غضب الأستاذ المشرف، موت في تخليه عنك وعدم مواكبته لك، موت في إهانة أستاذ لك، موت في سهر الليالي، موت في تأجيل حقوق ذويك، موت في مقاومة الألم والمرض.. إنه موت لحياة جديدة وولادة باحث مجد، كطائر العنقاء حينما انتفض من رماده وعاد إلى الحياة من جديد. ورغم ذلك نسعى ونساق إلى الموت مرة أخرى لأن البحث العلمي حلقة لا متناهية لها مبتدأ ولا نهاية لها. حاولت أن استحضر هذه المقاربة لجعل الموت مرادفا لشعور بلذة المعرفة، قبل تذوق لذة الحياة. أو لذة النص وهو رسالتك أو بحثك.
إن الباحث اليوم يحتضر في صخب و ياليته يحتضر في هدوء، فالعيب أن نطلب الحياة وننشدها دون أن يتسلل الموت إلى أجسادنا. الباحثون اليوم يريدون كل شيء جاهز، دراسة جاهزة، مطبوعات متوفرة، جامعة قريبة، جدول الحصص لا يتعارض مع توقيت العمل، كتب حديثة النشر بصيغة رقمية، غيابه عن المحاضرات وعن حلقات العلم والمثال الذي انطلقنا منه لكتابة هذه المقالة هو الأساس، ألا تعلم هذه الباحثة الكريمة أن تقرير الدكتوراه يأتي بعد تصور عميق الإشكال، وبعد سنوات من اختمار الفكرة واكتمالها وبعد قراءة موسعة سماها المرحوم "فريد الأنصاري،" بالرصيد المعرفي.
إن الباحث اليوم هو خريج مؤسسة تعليمية ومؤسسة جامعية، هذا الباحث الذي يتحرى الحياة دون الموت، فما هو زاده المعرفي والعلمي ليمارس سلطته البيداغوجية والعلمية في تقديمه لمنتوجه، تنهار السلطة، وتنهار القيم، ومسؤولية المؤسسات الجامعية والتعليمية واضحة، ومسؤولية الباحث ثابتة، على الجميع أن يقتفي أثر الموت ليحيا من جديد. لقد تحدث "صلاح بوسريف" عن هذا الأمر من خلال ثلاثية العلاقة بين الجامعة والأستاذ والطالب حيث قال: " «الطالبُ، مُتعلِّم، يمتلك الرغبة والاستعداد للمعرفة والاكتشاف، وهو طالِب، بهذا المعنى، الذي هو نوع من النَّهَم المشروع الذي يسمح باستغراق المعارف والعلوم لحياة هذا الطالب..... والجامعة في هذه الحالة تكون وسيلة من وسائل عقلنة وتنظيم البحث، وعقلنة وتنظيم المعارف، ووضع الطلبة في سياق هذه العلوم، لا باعتبارها تخصُّصات صِرْفَة، بينها سياجات لا تسمح بالذهاب إلى غيرها من المعارف والعلوم».
لقد مات الباحث وترك مكانه لمتطفل على البحث العلمي متقاعس كسول يستعين بالذكاء الاصطناعي، ويعول عليه في تحرير بحوثه دون أدنى مجهود منه، إن هذا الطالب المتقاعس الكسول سيسهم في تدني مؤشرات البحث العلمي، ويكرس ثقافة التواكل، وستنتج بحوثا رثة سيئة المنهج وركيكة اللغة، وخالية من مضمون فكري.
***
د. عبد المجيب رحمون






