شهادات ومذكرات

عبد الأمير كاظم زاهد: في رحاب استاذي الدكتور محمود البستاني

ترجمته هو الدكتور محمود بن الحاج عبد الحسين المعروف بالبستاني ولد في النجف عام 1937 في محيط متدين ومهتم بالمعرفة الدينية وملتزم بالتعاليم الدينية وبالزهد ومراعاة التقوى. دخل كلية الفقه عام 1961 وتخرج منها عام 1965 ثم سافر إلى القاهرة لإكمال دراسته العليا فحصل على شهادة الماجستير في النقد الأدبي من كلية دار العلوم في القاهرة عام 1969 وكانت رسالته ((النقد الأدبي في العراق، ثم انتسب إلى دراسة الدكتوراه في الكلية نفسها فكتب أطروحته للدكتوراه (المنهج النقدي في نقد المعاصرين)) وفي عام 1973 حيث كنت أنا طالبا في كلية الفقه المرحلة الثانية رجع دكتور محمود إلى النجف وعين تدريسيا في كلية الفقه وعهد إليه تدريس النقد والأدب الحديث وظل يؤدي واجباته كعالم ومربي ومفكر حتى عام 1980 فعزم على مغادرة العراق وصار اختياره إقامته في إيران فنزل في مدينة قم المقدسة ثم في مدينة مشهد المقدسة

التحولات العلمية في سيرة دكتور محمود البستاني

لقد بدأ دكتور محمود حياته السياسية ميالا إلى فكرة العروبة وأمن بأنها امة مجيدة حاضنة للقيم الإنسانية بيد أنه لم يبق على ذلك التصور إذ سرعان ما انتقل في مطلع السبعينيات إلى الإيمان والتدين العميق للإسلام الشيعي ثم حصل عنده تطور آخر إنه غاص في المعرفة الفقهية والأصولية حتى عده البعض ممن بلغ مرتبة الاجتهاد ولعله هو من صرح بذلك بعد تحقيقه لكتاب سلار المراسم العلوية ولم يستمر دكتور محمود في تطوير قدراته في مجال الفقه والأصول العامة الاستنباط فقد اتجه إلى تحليل الدلالة البنيوية للسورة القرآنية و أبحاث الرمزية والدلالة في القصص القرآني وقد اخترع الدكتور محمود منطقا جديدا من التفسير الموضوعي للقرآن وتحول إلى نظرية ((هندسة البنية السياقية والدلالية بما أسماه نظرية التفسير البنائي فأوجد الوشيجه المفقودة بين الوجه الفني والمعنى القرآني موضحا بعد ذلك الترابط والانسجام بين آيات السورة الواحدة بحيث ينتهي بها إلى وحدة بنائية متكاملة ومتناسقه

مولفاته عرف الدكتور البستاني بكثرةالتاليف ومن مؤبفاته

1.  المناهج النقدية في نقد المعاصرين – أطروحة الدكتوراه.

     2.     في النظرية النقدية.

     3.     النقد الأدبي في العراق.

     4.     دراسات فنية في التعبير القرآني.

     5.     دراسات فنية في القصص القرآني.

     6.     دراسات في علم النفس الإسلامي.

     7.     القواعد البلاغية في ضوء النهج الإسلامي.

     8.     تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي.

     9.     الإسلام والفن.

     10.   الإسلام وعلم النفس.

     11.   الإسلام وعلم الاجتماع.

     12.   الإسلام والأدب.

     13.   قصص القرآن دلاليًا وجماليًا.

     14.   التفسير البنائي للقرآن الكريم.

     15.   تحقيق كتاب المراسم العلوية.

     16.   مقدمة في منتهى المطلب للعلامة الحلي.

     17.   مقدمة في الدروس الشرعية للشهيد الأول.

     18.   دورة كاملة في الفقه – مخطوطة لم تُنشر بعد

عمل في المجالات البحثية والتدريس في المؤسسات العلمية في إيران حتى سقوط النظام الدكتاتوري بالعراق عام 2003 حيث اتيح لنا الالتقاء به في مجلسه الوعظي والأخلاقي ليلة كل ثلاثاء في داره المتواضع،

 وفي 15 آذار 2011 وصلنا خبر ارتقائه إلى الباري عن عمر74 سنة قضاها في إتمام الكمالات وقد ترك لنا مؤلفات مهمة وعالية الأثر مثل التفسير البنائي للقرآن الكريم بخمسة أجزاء وكتاب دراسات في علوم القرآن وكتاب القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي وفي التفسير البنائي على فهم البستاني محاولة للتحرر من القراءة الجزئية إلى القراءة البنائية ووحدة السور من خلال تجانس جزئيات النص معتمدا النمط الهندسي المعماري تجديدا للدراسات التفسيرية واختار الدكتور محمود البستاني رؤية أسلمة العلوم فكتب عن الأدب الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي وناقش تاريخ الأدب العربي ولكن ضوء المنهج الإسلامي

من جهتي ففي عام 1974 كنت اجلس على كرسي التلمذة اتعلم فيه فنون ومهارات النقد الادبي وجماليات العبارة والنص من استاذي الفقيد الراحل العلامة الدكتور محمود البستاني، وقد ارتاحت نفوسنا له اكثر من غيره لا سيما حينما وجدنا فيه البساطة والتواضع الجم والالفة والرحمة، كان استاذي الحبيب قريبا جدا من نفوس طلابه احبوه رغم رصانته الشديدة واتذكر انه في واحدة من الامتحانات كان قد نجح من بيننا ثلاثة طلاب فقط من مجموع مائه وخمسين طالبا كنت انا واحدا من الناجحين الثلاثة ولكن بدرجة قريبة من 50 بالمائة لقد ادخل محمود البستاني: مادة تحليل النص القرآني ونقد المعمارية في السورة القرانية كجزء من متطلبات ماده النقد الادبي وحلل القصة القرآنية فأذاقنا حلاوة كلام الله تعالى وجعلنا نعشق النص القراني ونتأمل به رغم صعوبة المنهج المعتمد عنده وعمق التحليل

 سنتان ونحن نتعلم من هذا (الحبر) الرباني العلم والحلم والخلق وعدم الاكتراث بالأشياء المادية، والانقطاع للباري الذي ليس له نظير وفجاة وبعد تخرجنا بفترة قصيرة أي بعد عام 1976 سافر الدكتور البستاني تاركا بلدا احبه وولد فيه وتعلم فيه وعاش عاشقا لعتباته التي كان يزورها مواظبا على استنشاق عطرها يوميا

فقد كان يزور سيد الحكمة وامام المتقين وبعد أداء مراسيم المثول بحضرة الاب الكبير الامام الروؤف علي بن ابي طالب ينعطف على رجل يجلس في دكانه البسيط قرب جدار الحضرة المقدسة لم يبدو انه من رجال الدين لم نكن نعرف من هو كان له دكان يبيع به بعض الحاجيات يرتدي العقال، بيد ان اشراقه روحه كانت عظيمة جدا فيجلس بين يديه يتعلم منه مسالك الاشراق ويتلقى عنه الخبرات الروحية والتجارب الذاتية والتأمل الذي لا يوفره له درس الفقه والأصول، وتطور امره كمريد مع شيخه الى المكاشفات، والكتمان العرفاني والتنسك الرفيع والوجد الروحي

 يقول د. محمود (انه لم يحصل من دراسته الجامعية والحوزوية ما حصل عليه من شيخة الذي عرفناه أخيرا انهى الحاج (عبد الزهرة الكرعاوي) فانتزعه من شغفة بالأدب والنقد، وجعله في روضة العرفان والرياضات الروحية فكانت العبادات بالنسبة لمحمود البستاني ليست طقوسا انما لحظات التلقي للدروس العميقة في الاخلاق والقيم و ترميم الذات المتصدعة بالذنوب حتى تنازل عن افضل كونه قد كتب افضل أطروحة دكتوراه في جامعة القاهرة وعن لقب افضل شاعر ستيني بالعراق، واحسن متابع للحداثة في الادب والنقد وافضل قلم يكتب نصا مكثفا بلغه غنية بالدلالة وغزيرة بالمعاني ومضيئة بالمقاصد ترك ذلك كلة متجها نحو( بناء ذات روحية حقيقية صادقة مؤمنة مستقيمة فانتقل محمود البستاني من نطاق الادب الى نطاق اكتشاف (المعنويات) معنى وجوده كانسان، ومعنى إيمانه كمسلم ومعنى مولاته كشيعي، ولكنة رغم لذة ما اكتشفه فقد ضل على صلة واطلاع على اخر منتجات الادب وفنون النقد وفنون التعبير، بيد ان تركيزه كان على بناء الذات واحراز المعنى فبعد ان تخطى مرحلة كتابة الشعر صار يتجه نحو ضبط بوصلة المناهج النقدية من خلال نصوص نقدية المعاصرين للمنتج الادبي وكانت تلك رسالته للدكتوراه التي أشاد بها عدد كبير من العلماء وعندما خلص من ضبط البوصلة الأدبية والنقدية صار الى انتاج منهج خاص به او رؤية خاصة به فكتب كتابا ( في النظرية النقدية ) الذي طبع في دار الشؤون الثقافية حدد فيها ملامح النقد الادبي في العراق كمعطيات تطبيقية للنظرية النقدية وبعد انجاز المتطلبات الاكاديمية والفنون الحياتية اتجه الى القران

 فغاص في النص القرآني، وكانت دفعتنا في كلية الفقه في عام 73_74 اول دفعة تلقت منه قراءاته في الدلالة القرآنية محظوظة وسعيدة به وبما افاض عليها

كانت محاضرته تطبع على الالة الميكانيكية الكاتبة وتوزع على الطلبة ثم تحولت الى كتاب بعنوان (دراسات فنية في التعبير القرآني) وانغمر البستاني اولا في القصة القرآنية لصلتها (ببناء الذات) ووتحصيل الاعتبار بالتجربة الإنسانية للأمم فكان كتابه (دراسات فنية في قصص القران) من اجل ما كتبه النقاد في شؤون القصة القرانية ومنذ مغادرته النجف الى ايران، لم نوفق للتواصل معه في تلك السنوات المرعبة، حتى عام 2003 حينما سافرت الى ايران اسال عنه فظفرت به في قم المقدسة وبقيت اتردد عليه طيلة بقائي في ايران واحضر مجلسه الأسبوعي ليلة الثلاثاء

وكان يأتي العراق لأيام ثم يعود كلما سنحت الفرصة له وفي اخر زيارة له للنجف كنت موفقا في ملازمته وتلبية رغباته التي لم تكن اكثر ذهابه الى مسجدي الكوفة والسهلة وحرم الامام علي علية السلام ثم كربلاء للزيارة وقد وجدت في نفسي حرصا على ان لا اتركه ابدا فقد كان عندي شعور غامض انه سيغيب طويلا فتاولت هذا الشعور بانه سيسافر الى قم المقدسة ولا يعود الا بعد زمن طويل كان ذلك في العشرة الأوائل من اذار2011في تلك السنة هبت عاصفة ترابية شديدة على النجف وكان دكتور محمود البستاني يعاني من مرض الربو فتضايق كثيرا فاتصل بي متعبا فوفرت جهازا cpap ليضخ له الاوكسجين، ثم لازمته فامرني بان اجلب له على وجه السرعة تذكرة طيران عودة الى طهران فامتثلت مرغما وجئت بها اليه وسافر الى طهران، ولم تمضي أيام على سفرة حتى جاء نبا ارتحاله الى جوار الباري تعالى فكان حالنا حال الثكالى بأعز الأساتذة ،وبانتظار جثمانه الطاهر تسمرت رجلاي عند باب مسجد الشيخ الطوسي منتظرا لحظة وداع الأستاذ الحبيب وعيوني لا تتوقف عن الفيض وصل الجثمان وصولا متواضعا كما كان صاحبه ورافقناه حتى مثواه الأخير بقيت استحضر ذكراه، واقف عند مواعظه ونصحه ومجلسه حتى حان موعد الأربعين الذي عقدناه بإلحاح شديد، وكانت كلمتي في اربعينيته هي وقفة على ذكرى …..المعلم الذي لا يزال حاضرا في القلب وفي الذهن فكتبت المرثية مرثيتي في اربعينية المعلم البستاني:

 أبان حرب تشرين 1973 كنت أجلس على مقعد الدراسة وأستمع الى الدرس النقدي في حضرة الدكتور البستاني وكان أستاذ النقد رجل لم تظهر عليه مظاهر الأناقة، ولم يراع شيئا خارج ذاته الذي تبدو مشغولة دائما بأمر (لم نكن نعرفه أنذاك )كل دراستنا كانت في بناء السور القرآنية الفني والمعماري وكان يضع الأطار العام والسياق الأكبر ثم يطبق ذلك على السور الأخرى أو يستدل على ذلك بجزئيات النص أو دلالة الجزئيات إنه لايتوقف عن الحديث عن البناء الفني على طريقة المتكلمين الذين ينطلقون من الكليات إلى الجزئيات، سألناه يوما أين نقد الشعر، والقصة، والمقالة، والرواية، يا أستاذ ؟ قال معرضا لا مباليا كأنك سألته عن أمر غير مهم ذلك لكم اقرأوه أنتم

 لم نكن نعرف: أنه حبس نفسه في نطاق العرفانيات فلم يحرز في تدريس القصة والنقد قصد القربة المطلقة، فلم يتعب نفسه فيه وقد جاءت درجاتنا في النقد متواضعة لم نسأله ذلك الوقت لماذا تدنت درجاتنا لكنه بعد 30 سنة أو أكثر سألته فأجاب مبتسما كنت أريد أن أجعلكم تنحازون للفقه والأصول والدروس الشرعية، ولا يعجبكم النقد والأدب فتنغمسون فيه

 في ظهيرة اليوم المدرسي في كلية الفقه حينما تكون الشمس عمودية تراه يضع قطعة من سجادة قديمة وينشغل بالمناجات كنا نراه كمن يعرج في عالم الملكوت يسبح، وينزه،ويحمد، ويشكر، ولم نسمعه يطلب شيئا من احد فلقد بان لنا عصامياً لا يطلب شيئاً إلا من عند الله

 كنت أحاول استكمال الإفادة منه بعد التخرج في دكانه الضيق المملوء بالعطر أسأله، واستوضح منه عن فقرة كتبها بأسلوبه الذي كنت أراه آنذاك عسير الفهم

وجدته مرة في شهر رمضان قرب غروب الشمس حيث يخلو الحرم العلوي الشريف من الزائرين وهو يتمتم عند الرأس الشريف اسمعه يكرر السلام عليك يا أمين الله،

وكان الناس يركضون (للحاق) بموائد الإفطار بينما تراخت قدماه وظل يمشي الهوينى. يحرك أصابعه على مسبحته التي هي من طين يومها كنت مدعواً لمأدبة افطار فطلبت منه أن يشرف الدعوة والداعي والمدعوين، فابتسم معتذراً فعرفت أنه لا يستسيغ موائدنا نحن أهل الدنيا لانه كان يختار من بين الناس المتأملين أهلاً وجماعة وكنا نراهم (غرباء) عن واقع راح ينحدر بقوة نحو الشيئية .ولدى محاورة مع عرفاني كبير اخبره طاعونا أسود سيحل على العراق مملوءا بالدماء والخطيئة فعزم على مغادرة العراق مرغما وفجأة غادر احترازاً من أي احتمال لاعتقاله او أن يكون جزءا من هذا البلاء الأسود في تلك المحرقة، صحيح انه لم يغادر فراراً من السلطة فقد كان قوي الشكيمة بل غادر فراراً من الاضطرار وغاب عن الناس جسداً، ولكنه كان حاضراً في مجالس أهل العلم وفي يوم من أيام حرب السنوات الثمان صدفة استمعت من برنامج إذاعي من إذاعة ايران عن البناء الفني للسور القرآنية وأعادني ذلك البرنامج الى الاسلوب الذي كنت اصغي اليه بجوارحي كلها اعادني الى عقد من السنين ونحن نقرأ (ملزمة النقد القراني) نفك طلاسمه بصعوبة وبعد انتهاء البرنامج عرفت أن المذاع نص من كتاب البستاني وانه قد كتب النص للإذاعة

أنداك عرفت أن أستاذي لا يزال يواصل معراجه ولكن لم اكن اعرف تفاصيل حياته بعد هجرته كنا مشغولين في الذي حصل في بلادنا من فواجع ومحن امتدت منذ غادرنا البستاني حتى سقوط الدكتاتورية، فلما من الله علينا بسقوط الكابوس عند ذاك شدنا شوق إلى الالتحاق بمشهد الامام الرضا (عليه السلام) فكان جزءاً من هذه المنة الإلهية استعيد معها ذكريات وأسماء وأحداث، ليس حوار التلميذ واستاذه بل حوار العاشق المحب لشيخه الذي غيبه الزمن:

كنت عندما اشاكسه كان يعاملني كصديق ويقابله بابتسامه تدل على روح متسامحة لا تقبل إلا أنه تستقر بإفقها الاعلى وقد جرأني ذلك الحنان أن أخالفه آراءه لمجرد التمتع بابتسامته والتلذذ بتسامحه مع من يخالفوه، فصرت أفتعل المخالفة طمعاً في تسامحه وقد صار ذلك جزءاً من المراسيم و المهام التي يجب أن تؤدي حين نذهب إلى زيارة الامام (علي بن موسى الرضا عليه السلام ) وتجدد عندي تقليد مساء الأثنين حيث كنا نستمع لرثاء الحسين عليه السلام ثم يتناول كتاباً في الحديث والأخلاق فيعرض على جلاسه بعض النصوص ليستطلع كيف يفهم (بسطاء الناس) ثم يتدرج معهم في اعادة فهمه بطريقة عالية .

بعد ذلك: يأتي بإناء بسيط فيه قطع من لحم الدجاج صغيرة الحجم لعلها لا تكفي جائعا، وقطعاً من الخبز وشيئاً من الخضروات فإذا انفض المجلس سهر معه الساهرون وكنت منهم لكنني لم أسمع في مجلسه قدحاً ولا تشهيراً ولا إساءة ولا غمزاً ولا لمزاً فإذا بادر احدنا بمثل ذلك إدار دفة الحديث نحو أمر آخر، دون أن ينهاه أو يطلب منه الا يذكر أحداً بسوء ولم تتغير هذه الترابية عند الدكتور محمود رغم توالي السنين وتبدل الأحوال وبقي هو ذاك كأنه جوهر نفيس في متحف الأفذاذ كلما نظرت إليه وجدته هو هو رمزاً للاخلاص والثبات وحب الناس وعشق العلم

لا أدري لماذا أحبني الدكتور محمود إذ ليس في شيء مميز، مع هذه اللامبالاة الذي يزدرى بكل ما في الدنيا لكنني أجده مهتما بي اهتماما بالغا سألته مرة، فلم يجبني؟ فسكت تأدبا وفي احدى الليالي الححت عليه أن يعود إلى العراق ويعيش أواخر أيامه في النجف لشغفه بزيارة الإمام .. فانزلقت من عينه دمعة أراد أن لا أكتشفها لكنه فشل في ذلك ..

لقد كانت أمنيته: لكن ما يعيق تحقيقه أنه لا يطلب لنفسه شيئا من أحد ورغم ذلك فقد سعي له بعض إخوانه وتلامذته وكان (من أحسن إليهم في أوائل السبعينيات) هم المعرقلون لعودته فصبر وسكت، لم يسمعه أحد يحكي هذه الحكاية المريرة ثم عاودت الكرة فامتنع ثم وضعت نفسي موضع الذي يتكلف كل شيء حتى التوقيع بدلا عنه بناء على طلبه على ان يعود للتدريس فلم يرضى إلا بشق الأنفس،ثم سكت سكوت المضطر إلى القبول وتحركنا فلما دنونا من القرار أحبطه (الناس) وعاودنا الكرة ثالثة ورابعة حتى قبل رحيله بأيام، ولم نفلح

 اتصل بي يوما وكان في النجف لايام قال (سأرجع إلى قم) سألته لماذا قال أنا أجلس وحدي لم يأتني إلا أنت فصرت اصنع وليمة وأدعو الناس إلى زيارته رغبة مني في أن يبقى وقتا أطول وفي ليلة كنت وبعض إخواني نودعه فكنت أمازحه بالقول إن الأنواء تقول غدا ستهب عاصفة رملية وتتوقف الرحلات الجويه وعليك ان تبقى قال صدق الله وكذب المنجمون قلت له إننا نعيش اليوم في عصر المنجمين سيدي الأستاذ يا من رآك الناس في غربة ورأيت نفسك في افضل مواضع الرضا

يا من ظلمك الحاقدون والحاسدون وقد استعدت روحك الكبيرة لتشملهم بصالح دعائك بالهداية والتقوى يا من: غادرت وانت حاضر وغبت وانت مقيم في القلوب والضمار

قال له غير واحد: كنت (كهفا يلجأ اليك المتعبون في رحلة الحياة .. فيتعلمون منك ان الدنيا كلها لا تساوي عندك ساعة من فكر لقد تعلمنا منك: جدية الموقف، والاخلاص للمعرفة وقداسة التفكر، وعلمتنا بأجمل العبارات: ان الزهد رفعة وان العفة منعة وان المهم ان تعرف شيئا عما وراء هذا العالم

علمتنا: ان نعرض عمن امتلأت نفسه بالكراهية فمحاضراته كانت بلسما لعقد الانانية فلم يلق من الناس الا السوء لكنك لم تقابله بكلمة عتب بل كنت تشيح بوجهك عن ذكر شيء من ذاك

فيا محمود الخصال ومحمود القيم ويا بستان الورد واجمل الشجر واحلى الثمر. نم قريرا وانا بك اللاحقون ولا نقول في وداعك سوى انا لله وانا اليه راجعون.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

في المثقف اليوم