اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الاعتقاد والمعقولية.. والإشكالات الفلسفية الراهنة
في باريس، حيث كنت الأسبوع المنصرم، شاركتُ في الندوة الفلسفية المتميزة التي نظّمتها جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بالتعاون مع جامعة السربون الفرنسية العريقة، حول «المعتقد والعلم والمعقولية»، بمشاركة عدد مهم من أبرز الوجوه الفلسفية مِن أوروبا والعالم العربي.المناسبة فريدة من دون شك، باعتبار المؤسسة العلمية العتيدة التي نشأت في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، واحتضنت أهم أوجه الجدل الفلسفي اللاهوتي في العصر الوسيط والأزمنة الحديثة.
وفي الفترة المعاصرة، درس أهم الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين في جامعة السربون، من برغسون وباشلار وميرلو بونتي إلى مؤسس علم الاجتماع دوركايم وعالم الأنثروبولوجيا الأشهر كلود ليفي شتراوس. كما أن الموضوع نفسه شديد الأهمية من المنظور الفلسفي، ويترجم وفق ما عبّر عنه الدكتور خليفة الظاهري، مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، في كلمته الافتتاحية المتميزة والرصينة، خلال لقاء باريس، أهميةَ التبادل الثقافي العربي الغربي في مسألة محورية لا يمكن اختزالها في اعتبارات الاعتقاد الديني الذي تحرّفه في بلداننا مجموعات أيديولوجية معروفة ووجوه تتلبّس غطاءً فلسفياً زائفاً لتمويه تطرفها الراديكالي وانغلاقها عن العصر.
فهذه الإشكالية، كما بيّن الظاهري، هي في صلب الموقف الفلسفي الراهن، وتستدعي من ثم القراءةَ الجادةَ والتفكيرَ الدقيق. وإذا كان موضوع الإيمان والعقل له جذوره الفكرية اللاهوتية العميقة والبعيدة في تراثنا العربي الإسلامي، وفي التقليد اليهودي المسيحي الغربي، فإن الاهتمام به تقلّص لمدة طويلة قبل أن يرجع إليه الاعتبار في الفترة الأخيرة في سياق مختلف ومغاير لأجواء الجدل السابق. في كتابه «الإيمان والمعرفة»، الصادر سنة 1996، يرجع الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك دريدا إلى ثنائية الاعتقاد والعقل، مستعيداً الأفكارَ البارزةَ التي بلورها أمانويل كانط حول الموضوع ذاته في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»، وكذلك هيغل في كتابه الذي يحمل نفسَ عنوان كتاب دريدا (الإيمان والمعرفة).
وإن كان كانط قد قال في مقدمة كتابه الأساسي، «نقد العقل المحض»، إن غرضه هو تبيان حدود العقل، بغية إفساح المجال للاعتقاد، ودعا إلى ترجمة المعتقدات اللاهوتية في صيغ أخلاقية إنسانية، بينما دعا هيغل في نصّه الذي كتبه سنة 1802 إلى نقل الحدوس العَقدية الذاتية إلى مستوى المفاهيم العقلية الكونية.. فإن دريدا يذهب إلى أن الحداثة لم تنجح في القضاء على الاعتقاد الديني، مبيناً أن العلوم والقانون والتقنيات تصدر عن منظور إيماني غير واع وبالتالي فلا سبيل لتعويض الاعتقاد بالمعقولات المجردة أو الموضوعية.
وبالنسبة لدريدا ليس الاعتقاد والعقل متقابلين، بل هما متلازمان ويشكّلان عمقَ التجارب التأويلية والرمزية الإنسانية الثابتة، مثل الشهادة والكلام والوعد والثقة في الآخر. ومن ثم يظل الاستقطاب الإبستمولوجي والنظري بين الاعتقاد والمعقولية قائماً دون انقطاع أو تبدل في الفكر الإنساني. هذه الرؤية لدريدا لثنائية الاعتقاد والمعقولية تندرج في نطاق ما عبّر عنه البعض بالمنعرج اللغوي في الفلسفة المعاصرة، أي الخروج من المقاربة الوصفية الطبيعية للعقل إلى الفهم التأويلي، لكون الفاعلية التعقلية نفسها إنما تتم من داخل النصوص وعبر إمكاناتها التصورية والتداولية.
فلا توجد علاقة مباشرة بين العقل والوجود، بل لا بد من وسائط تعبيرية ورمزية تنشأ داخل ما سمّاه بول ريكور «عالم النص» بصفته تعبيراً عن أفق مشترك للعيش وليس مجرد شبكة دلالية نستنطق معانيها وحقائقَها كما كان قائماً في النظريات البلاغية القديمة. ولا شك في أن الفكر الإسلامي الذي اكتشف في جوانبه الأصولية الكلاسيكية أطروحة المقاصد والضرورات، بحاجة إلى الانتقال إلى نمط «التأويلية التلاؤمية» بلغة العلامة الشيخ عبدالله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للفتوى رئيس منتدى أبوظبي للسلم، الذي قدّم في الندوة محاضرة افتتاحية عميقة وثرية.
«التأويلية التلاؤمية» تجمع بين قيم الدين ومعتقداته الثابتة من جهة والواقع الراهن الذي يدخل في باب الظواهر القدرية التي هي في نهاية المطاف من آيات الخالق الذي أنزل النص إلى الوعي البشري. في لقاء باريس، خرج المشاركون بانطباع قوي أن الفكر الإسلامي الرصين المتحرر من شباك الأيديولوجيات ومن شوائب التعصب والتطرف قادر على التحاور مع الفكر الإنساني المعاصر دون مصاعب أو عوائق. وحسْب جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أنها فتحت الطريقَ وقدمت النموذج وأتاحت الأرضية الفكرية الضرورية للحوار المنشود.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم:21 ديسمبر 2025 23:00






