تجديد وتنوير

محمد حبش: تطور الشريعة.. قراءة في جدل النقل والعقل

منذ أطلق تيار التنوير صيحته التاريخية التي أذن بها الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والمنطقة تعيش على صدى خطاب التجديد تبشيراً ورفضا وقبولاً ورداً، وفي هذا السياق يمكن إدراج أكثر من ثمانين بالمائة مما يكتب في الشأن الإسلامي منذ أكثر من مائة عام!!

أما التحدي الذي يظهر أمام تيار التنوير فهو في الواقع التيارات الأصولية التي تعيش في لحظة محددة من التاريخ، وتعتبر أن أي توجه للتنوير هو عدوان على قرار الشـريعة اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

وهنا لا بد من القول بأن الأصولية مصطلح غربي، وقد اكتسب دلالة سلبية لأنه يطالب الواقع بالاحتكام إلى الماضي، الذي تحددت أصوله بنصوص سماوية غيبية يتعين التزامها ولا يصح تجاوزها، وهو تعبير صحيح عن الانحشار في زاوية محددة من التاريخ والاحتكام إليه، وهنا أود القول بأنني لا أعترض أبداً على العودة إلى عصر النبوة ولكنني أعترض على الفهم التقليدي للالتزام بتلك اللحظة التاريخية، بمعنى منع العقل من المبادرة والاختيار والاكتفاء بقواعد توليتارية شمولية يوتوبية على صيغة: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، ولو كان خيراً لهدوا إليه، وما ترك الوحي للعقل من عناء، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

يستند الفهم الأصولي إلى عمومات شديدة الصرامة ثم يجللها سرمدياً بدثار الغيب بحيث تستحيل مناقشتها أو الخوض في تأويل ظاهرها أو تخصيص عامها أو تقييد مطلقها أو حتى تنقيح مناطها، بحيث تصبح كليات شرعية لا تحتمل النقاش ومن السهولة بمكان إذن إلقاء الآخر المختلف خارج هذه الدائرة، حتى يتعين رفضه وانتباذه.

- قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات والأرض

- قل أأنتم أعلم أم الله؟

- وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم

- اتبع ما أوحي إليك من ربك

- اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء

- وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.

- فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.

وبالوسع أن نضيف أكثر من مائة نص كلها تحث على طاعة الله ورسوله وهو الأمر الذي تم اختزاله فيما بعد على شكل نصوص مطلقة منع فيها التأويل والتخصيص والتقييد، وأصبح أي إعمال للعقل في المسألة التشريعية نوعاً من العدوان على النص الحكيم، وهو ما أدى إلى تجنب كثير من الحكماء الدخول إلى تلك المنطقة الحمراء واجتنابها بالكلية.

إنني في الواقع لا أعترض أبداً على أي من هذه النصوص المعصومة، وبالتالي لا أعترض على العودة إلى فهم النبوة لهذه الحقائق ولكنني أعترض على السياق الذي وضعت فيه ممنوعة من التأويل والتخصيص والتقييد، ولا أجد في معرض الجدل هذا أفضل من أذكر بالمقابل طائفة من النصوص القرآنية والنبوية التي أمرت باستعمال العقل إلى الغاية ودعت إلى تغير الأحكام بتغير الأزمان ولكنها عوملت من التيار إياه بالتقييد والتخصيص والتأويل الذي يصـرفها عن أن تكون قواعد فكرية للحوار والمعرفة:

 لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي

- قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق

- فاعتبروا يا أولي الأبصار

- لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط

- إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي

وكذلك وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

- أنتم أعلم بأمور دنياكم

- إذا أمرتكم بالأمر من أمور دينكم فهو مني وأنا قلته وإن أمرتكم بالشيء من أمر دنياكم فإنما أظن ظناً.

- إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب

إن استعراض منهج النبي الكريم في عصـر الرسالة في وعيه بما هو ثابت وما هو متحول يجعلنا نقف مشدوهين أمام الإرادة العجيبة في التطور والتحديث التي ظهرت في عصـر الرسالة ففي إطار القرآن الكريم الذي هو المقدس الأول تم نسخ عشرين آية على الأقل خلال عشر سنوات من عمر الرسالة، وعدد مماثل من السنن النبوية، وفي هذا المنسوخ أحكام تتصل بالحدود والحكام والعبادات والمعاملات وسائر فروع التشريع، بل إن مسألة القبلة التي هي أوضح ملامح الشريعة ورموزها قد نسخت مرتين على الأقل فمضى الأمر في أول عصر الرسالة إلى استقبال الكعبة ثم بيت المقدس بعد فترة ثم عاد الأمر باستقبال الكعبة: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.

وفي نكاح المتعة تمت الإباحة مرتين والتحريم مرتين خلال عصـر الرسالة، وفي النهي عن ادخار لحوم الأضاحي، وتحريم تزويج الزانية والزاني على العفائف الذي نسخ فيما بعد.

وهكذا فإن أمر النسخ الذي هو أوضح أشكال المتغير في إطار النص وإن توقف عند موت الرسول الكريم ولكن الأمة مضت في إعمال قواعد أخرى تحقق الغرض نفسه من الاستجابة لمتغيرات الحياة في التشريع ولكن عبر تسميات أخرى كتخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر، وعلى سبيل المثال فإن حد القطع المنصوص عليه في القرآن الكريم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، تم تخصيص عمومه من خلال اجتهاد الفقهاء، ولم يمض عصر التدوين حتى نص الفقهاء على عدد من أنواع السرقة لا قطع فيها مع أنها مشتملة بعموم النص، فالنباش والطرار والمختلس والغال والغاصب والنشال والمكره لا يقام عليهم الحد رغم أنهم مشمولون بعموم النص، وذلك إعمالاً لقاعدة ادرؤوا الحدود بالشبهات، وتحقيقاً لعلة التشريع، ومضى الفقهاء إلى وضع أكثر من ثلاثة عشر قيداً على حد القطع بحيث لا يقام إلا في إطار ضيق جداً، وهو ما يفسر لك منطق البحث عن الغايات في الأحكام.

على كل حال فليس المضي في هذا البيان محض مطالع أصولية نسعى إليها، بقدر ما هو تقرير أن الثابت والمتغير في الشـريعة أفق استيعابي توحيدي يمكن أن يحقق اجتماع الأمة على ثوابت كلية تحقق الإعذار للمختلف.

وعلى ذلك مضـى الفقهاء يؤمنون بالعصر والزمان والمكان، ففي فقه الشافعي على سبيل المثال فإن الشافعي كتب فقهه في العراق في كتابه الحجة، ولكن ما إن تحول إلى مصـر حتى تبينت له مسائل كثيرة لم تكن بادية فيما قبل، وبالفعل شرع بكتابة فقهه الجديد في كتابه: الأم، وعندما انتهى الإمام من تحريره وقف بكل شجاعة وجرأة يقول: لا أحل لأحد أن يفتي بمذهبي القديم، بعد أن حررت المذهب الجديد، وليس هناك نظرياً أدنى شك أنه كان سيقف الموقف ذاته لو عاش عشر سنين أخرى، ودخل أمصاراً أخرى كالمغرب والأندلس مثلاً، وقد مضت الشافعية إلى ترك الفتيا بمذهب الشافعي القديم إلا في أربع عشرة مسألة، وقد كتب مؤخراً عبد العزيز قاضي زاده رسالة ماجستير استقصى فيها سائر المسائل التي يفتي بها الشافعية من المذهب القديم فكانت ثلاثين مسألة لا غير!!.

يمكن قراءة مشهد آخر لا يقل ألقاً عن موقف الإمام الشافعي في فقه الإمام الجليل مالك بن أنس عندما أتم إعداد كتابه الموطأ وهو من أوثق كتب السنة وأجمعها، حتى طار صيته في الآفاق وحين لقيه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أعجب بعلمه غاية الإعجاب وقال له فيما قال: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس ولكنك تكتم، وأمر أبو جعفر أن ينادى في المدينة: ألا لا يفتى ومالك بالمدينة. ثم قال والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه!! فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!! لقد كانت في الواقع فرصة تاريخية للإمام مالك بن أنس لو أراد أن يغتنمها حيث سيصبح حينذاك صاحب الكتاب الثاني في الإسلام وسينشر علمه في كل أفق بسلطان الدولة، ولكن الإمام مالكاً أظهر موقفاً حضارياً فريداً يوم رفض هذا العرض المغري المثير، وقال بمنطق ديمقراطي وحضاري فريد، لا يا أمير المؤمنين، لا تحمل الناس عليه، إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وقد حدث كل بما سمع، .....

إنه وعي آخر في ثقافة الثابت والمتغير جعلت إمام أهل المدينة يقف هذا الموقف الفريد، الذي قد يبدو مقاوماً لإرادة الخليفة في توحيد الأمة، ذلك أنه أدرك أن الوحدة الفكرية ليست قراراً سياسياً تتخذه السلطة، وأنه ليس من مقتضى التوحد إقصاء الفكر الآخر وإلزام الناس بالثابت من أفق واحد، في وعي فريد لحاجة الحياة إلى التطور والتحديث في كل أفق.

بالتأكيد لن تستطيع مقالة كهذه أن تعالج مسألة دقيقة وصاخبة كهذه المسالة، ولكن بإمكانها أن تطرح بعض التساؤل حول ثقافة الثابت والمتغير، وفق الآية الكريمة: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً فاستبقوا الخيرات، وكذلك الآية: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

إن فكرة الثابت والمتحول هي جزء من ثقافة الإعذار التي تهدف إلى توفير مظلة وافية يأوي إليها أكبر عدد ممكن من أهل لا إله إلا الله، ولا تضيق بأحد من أهل القبلة، وهي ترسم ملامح تيار الوسطية وهي بالتالي تحتاج إلى تحرير قابل للتطور أيضاً بحيث لا يصبح هذا التحرير نفسه عصياً على التطور والاستجابة لحاجات الحياة، وهنا فإنني أطرح معياراً للمناقشة والتساؤل في تعريف الثابت والمتغير، بحيث يكون الثابت من الأحكام هو ما انعقد عليه الإجماع بحيث لم ينهض إمام معتبر بالخلاف فيه، والمتغير هو ما تردد في قبوله إمام أو مذهب محترم، وبذلك فإن ما خالف فيه إمام معتبر لا بد أن يكون من باب المتغيرات، خاصة أن الأمة استمعت إلى خلافه وأعذرته في اختياره، وأقرت منزلته ومكانته على الرغم من اختياره هذا.

 وبتعبير رياضي فإن الثابت هو القاسم المشترك الأعظم بين أبناء الأمة اليوم، بحيث يكون كل خلاف فقهي أو تشريعي تعتمده مدرسة فقهية سائدة هو من باب المتغير، وبذلك فإن المذاهب التي تنتشر اليوم في العالم الإسلامي، وتتجه إلى القرآن الكريم هادياً ونوراً، فهي أهل أن تعيش في جنة الفقه الإسلامي وتسعد بالروح الغامرة في الإسلام التي تجتمع عليها القلوب والأفئدة. 

إن منطق الثوابت والمتغيرات ينبغي أن يتبرأ من الشخصانية والطائفة والفئة، ويحلق صوب المقاصد الكبرى للإسلام، ولا يقتضي ذلك مفهوم التذويب والصهر بحيث تنتهي الخصوصيات، وإنما هو إقرار بالخصوصية الناشئة لدى كل فريق، وفي الوقت عينه، بالروح الجامعة التي يأوي إليها الكل، فما كان ثابتاً في مدرسة فقهية معينة قد يكون من باب المتغير في مدرسة فقهية أخرى، وهو ما يعبر عنه عادة بلازم المعتقد ولازم المذهب، فقد لا يتم الاتفاق في إطار لازم المذهب ولكن يلزم الاتفاق في لازم المعتقد، وعلى منطق الثابت والمتغير أن يرتقي إلى أفق توحيد جمعي يتسع للكل ولا يضيق بأحد من أهل لا إله إلا الله.

لقد تمكن العقل الإسلامي اليوم من تقبل المنجز الحضاري القادم من جهات متعددة على الرغم من أنه إلى حد قريب كان يتعاطى مع هذه المنجزات بقدر غير قليل من الريبة، وكان الاستغناء عن القوم الكافرين يحمل الوعي الجمعي هنا على التنكر لكثير من المنجز الحضاري، وهو حس تحمل دعاة التنوير قسطاً غير قليل منه في تحارب الأمم الأخرى، ولم تتقبل أوروبا صورة كوبرنيكوس للمجموعة الشمسية ولا مناظير غاليلو وأوشك الرجلان أن يدفعا روحهما ثمناً له، على أساس أن النتائج الكوبرنيقية كانت تتناقض مع الموروث الثقافي الذي اكتسب طابع العصمة، ولم تتمكن مناظير غاليلو من تغيير قناعات الناس بالموروث المعصوم على الرغم من أنها قراءة مجردة بالعين الباصرة!!.

الأمر نفسه عانى منه المجتمع الإسلامي لدى العديد من المنجزات الحضارية ويمكن أن نشير هنا إلى عدد من النوادر المشهورة حول التلفون الذي كان يتكلم منه الشيطان، والتلفزيون الذي اكتسب في مرحلة ما اسم الأعور الدجال، والسيارة التي كانت تعاني هي الأخرى من الاتهام بأنها إعراض عما خلق الله من أنعام مباركة، إلى مضاهاة يقوم بها الكافرون!! وكذلك الفتاوى المتعددة التي صدرت عن مراجع دينية في الحجاز في السبعينات تستنكر استنكاراً شديداً وصول الإنسان إلى سطح القمر وتعتبر محاولة ذلك أو تصديق حصوله انتهاكاً للشـريعة!! وأذكر جيداً أن إمام مسجد النوفرة في حينا قبل عشـرين سنة على سبيل المثال كان يرفض استخدام المروحة الكهربائية بدافع من إحساسه بأن من الواجب الاستغناء عما يصنعه (الكافر)!

بالتأكيد لم يكن ذلك شأن المتنورين في أي من مراحل التاريخ الإسلامي ولكن هذا المشهد كان من الممكن قراءته في زوايا متعددة، وكان يشكل ظاهرة عامة في الوعي الاجتماعي، ولعل من أقربها وأوضحها الطريقة التي كان عدد غير قليل من علماء الفقه الإسلامي يواجهون بها مسألة التصوير الفوتوغرافي، فقد ظل التصوير الفوتوغرافي من وجهة نظر كثيرين لوناً من العدوان على الشريعة، وهو أمر يذكره ويعرفه كل متابع للشأن الفقهي في المجتمعات الإسلامية، وكانت بين أيدينا النصوص الكثيرة المتضافرة التي يدل ظاهرها على ذلك، مثل إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، وهو أمر مارسته حركة طالبان بامتياز حين منعت كل شكل من أشكال التصوير لذوات الأرواح!! ولكن الناس تجاوزت ذلك فيما بعد، وتم تأويل النصوص التي يدل ظاهرها على منع التصوير، ونحن نروي اليوم هذه المسائل على سبيل التندر والتعجب وهو أمر لم يكن وارداً على الإطلاق ربما قبل جيل واحد!!

على كل حال فالعقل الإسلامي اليوم تجاوز عموماً هذه المرحلة وأصبح جاهزاً لتقبل المنجز الحضاري أياً كان بلد المنشأ وثقافته، ولم يعد مهماً أن نسأل عن الاكتشاف العلمي والتكنولوجي هل هو من إعداد المسلم أو الكافر، لقد تأكدت صحة القاعدة الفيزيائية، وجربت فائدة هذا المنتج، ولا يشكل أي عقدة كونه من صناعة يهودي أو ملحد أو مؤمن!!

ولكن المسألة ليست كذلك حتى الآن في إطار السنن الاجتماعية، فهذه السنن الاجتماعية حتى الآن تعامل بريبة غير محدودة عندما ينظر إليها على أنها من كيد الكافرين لتحويل الأمة عن دينها وثقافتها، ولا يتعاطى العقل الإسلامي مع هذه السنن الاجتماعية بالطريقة نفسها التي يتعاطاها في ميدان السنن الفيزيائية. الديمقراطيات اليوم أصبحت إنجازاً إنسانياً ومن الواضح أنها نقيض الاستبداد ، وأن أصحاب العقول في العالم متفقون أن الديمقراطية هي حكم العدالة، وأن نضال الشعوب في سبيل الديمقراطية إنما هو سعي لإحقاق الحق ورد المظالم عن الناس ومقاومة الاستبداد والظلم، وهي من صلب مقاصد الأديان جميعاً، ولكن لا تزال الديمقراطية محل جدل غير قليل في الخطاب الأصولي، وثمة من يعتبرها نقيضاً مباشراً للشورى، ولم يشفع لها حتى الآن الإجماع البشري عليها، والأمر نفسه في إطار حقوق الإنسان، فإن نضال البشرية من أجل الانتصار لحقوق الإنسان التي تم إقرارها في يوم مبارك هو العاشر من يناير 1946، إنما يعتبر جهاداً في الدرب الصحيح، ولكن للأسف فإن كثيراً من التيارات الإسلامية تتعاطى مع هذه السنن الاجتماعية بالريبة والتردد والتخوين، مؤخراً قرأت ما كتبه أحد الأعلام الكبار حول ما أسماه ثالوث الشر المخيف، وراح يتحدث عن خطر هذا الثالوث الثقافي على الإسلام والمسلمين ، مبيناً أن التحذير من هكذا انحراف مهمة شرعية وواجب ديني، وحين خطوت معه خطوة أخرى لأقف على مغزى هذا الثالوث الأخطر في حياة المسلمين فوجئت بكل صراحة أن ثالوث الشر هذا هو بكل وضوح: المساواة والحرية والديمقراطية!!!

هكذا وبدون تردد يطرح حتمية المواجهة بين الفكر الإسلامي وبين الحرية والمساواة والديمقراطية!! ومع أنه كان متجهاً لإقرار أن الإسلام دين العدالة والتسامح والشورى ولكنها رأى في مصطلحات الحرية والمساواة والديمقراطية نقيضاً مباشراً لتعاليم الإسلام مع أن هذه المصطلحات اليوم تحظى بتأييد الشرفاء في العالم كما تحظى النظرية النسبية بتأييد الفيزيائيين، وكما يحظى كروية الأرض بتأييد علماء الفلك جميعاً.

إن علي أن أشير هنا أن الأمة الإسلامية في وعيها الأول بدلالات الكتاب الكريم لم تكن تتعاطى معه بالطريقة التغييبية التي نمارسها اليوم ، وهو أيضاً ما يدل له القرآن الكريم، فالقرآن الكريم واضح في أن سطور الكتاب الكريم على رغم عظمتها لا تحتوي كل كلمات الله ولا كل آياته، ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عليم خبير، ومن المعلوم هنا أن آيات القرآن الكريم كلها يمكن أن تكتب بقلم واحد ولا حاجة لبحار من الحبر، ولا لأطنان من الأقلام، والمعنى نفسه يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.

إن التأكيد على هذه الحقيقة هو الذي جعل كثيراً من علماء الإسلام يتحدثون عن قرآن مسطور وقرآن منشور، فالمسطور هو هذا الوحي الذي تلقته الأمة بين دفتي المصحف، والمنشور هو هذا الكون الذي يقرأ الإنسان عجائبه في كل شيء، وربما قالوا وحي متلو ووحي مجلو، الأول تتلوه في صحائف الكتاب والثاني يتجلى في صحائف الأكوان، وهكذا فإن سنن الله في الآفاق وهو ما يتجلى في القوانين الفيزيائية والطبيعية والاجتماعية التي اتفقت عليها كلمة البشر، وقرأها الإنسان بوضوح في كتاب الكون المنشور، لها قوة الدليل في الكتاب المسطور.

***

د. محمد حبش

 

في المثقف اليوم