آراء

سلام المالكي: الامتحانات التقويمية في التعليم العالي...الى اين المسير؟

ان كان لبلد او لامّة ان يأخذان موقعا محترما ضمن بقية الأمم فليس سوى التعليم على رأس أولويات ذلك الهدف. التعليم الاولي بداية من المراحل الابتدائية تنشيء الأجيال القادرة على انتاج مجتمع صحّي أساسه الاخلاق والوعي، ثم تكمّله الدراسات المتقدمة وصولا للدراسات العليا. ولست أجد في اساسيات انشاء نظم التعليم تلك من حجر اصلب ولا اضمن من وجود عقل او عقول قادرة على وضع ستراتيجيات بمختلف المديات ورؤى واهداف واضحة المعالم مع سياسات عمل قابلة للتطبيق ميزتها المرونة وإرادة التطور لكن...و اخ من لكن، حيث تسكب هنا أطنان من العبرات...لكن مع ضرورة بل وحساسية الثبات الحكيم الذي هو عكس التقلبات كيفما مالت ريح الصرعات والاجتهادات والشطحات الفكرية. ان ضمان الاستيعاب وتراكم الخبرات وتعديل الهنّات والأخطاء خلال مختلف مراحل التطبيق، وهو امر طبيعي بل وصحّي في غالب الأحوال، لا يمكن الحصول عليه مع التغيرات او التعديلات الكثيرة ضمن مرحلة زمنية قصيرة، حيث تكون التعديلات والتعديلات على التعديلات ثم العودة عن تلك الأخيرة لغيرها ضمن مدد قصيرة مصدر هدم وتخريب مهما كانت النوايا خيّرة او صادقة...و هذه من اساسيات علوم الإدارة ويعرفها كل من درس او مارس الإدارة.

نظام الامتحانات التقويمية للتخصصات المتماثلة في الجامعات، والذي يتلخص باختيار عدد من المواد الدراسية للمراحل الدراسية المختلفة، ثم وضع أسئلة امتحانية موّحدة في كل الجامعات الوطنية بقصد قياس مستوى التحصيل الدراسي لطلبة الجامعات او لنقل مستوى التدريس ونتاجه في الجامعات. بمعنى ان طلبة قسم الهندسة المدنية (مثلا) في جامعات بغداد والمستنصرية وووو الموصل والبصرة وواسط وووووو يمتحنون بمادة الأسس (مثلا) بأسئلة موحدة تختارها لجنة وزارية. هذا النظام ابتدأ العمل به في العراق حسبما أتذكر سنة 1995/1996 او بعدها بسنة، وقد كانت أوامر ال"قيادة" حينها رعبا بكل ما تحمله الكلمة حيث كانت تقضي بمعاقبة الأستاذ التدريسي الذي تكون نسبة نجاح طلبته اقل من 30%، وبالفعل فقد كانت العقوبة تحويل التدريسي الى ما يسمى معسكر ضبط (الرضوانية) مدة شهر يذوق فيها مختلف أنواع الإهانة والتنكيل، وهذا ما حصل حسب ما أتذكر لأستاذٍ فاضلٍ بدرجة بروفيسور  كان قد تجاوز الخمسين من العمر، وقد ترك البلد بعدها ليعاني ذل الغربة في ليبيا القذافي بدلا عن الهوان امام أولاده وعائلته وزملاءه.

لا ازعم انني اعلم من الخبراء والعلماء الذين أشاروا او قرروا إعادة نظام الامتحانات التقويمية، حيث لابد ان لهم وجهة نظر وحجج وفي كل الأحوال فما انا الا شخص بسيط لا وزن لما أقول. لكن حسب معايشة طويلة في ومع الجامعات العالمية الرصينة لم اجد مثل تلك الامتحانات لا قبلا ولا حاليا. بلى توجد اختبارات صلاحية ممارسة المهنة (بعد انتهاء الدراسة الجامعية) في تخصصات مثل الهندسة والطب والقانون والمحاسبة...الخ، تقوم بها مؤسسات مستقلة عن المؤسسات الجامعية والفشل فيها لا يلغي شهادة التخرج للطالب كما انه لا ينعكس على الأستاذ ولا على الكلية بشكل مباشر لأنه في كل الأحوال اختبار للجهد الشخصي للطالب. وحتى في حال وجود تجارب قريبة منها فانها تكون على مستوى الكلية او الجامعة ذاتها لضمان رصانة المخرجات وتعدّ من مكملات الحصول على الشهادة.

بسرد مختصر لاهم مواطن الضعف في نظام الامتحانات التقويمية أثناء الدراسة الجامعية يمكن القول:.

1. تؤدي بالضرورة لتُحجِّم الإبداع والخصوصية وذلك من حيث:

أ‌. فقدان المرونة الأكاديمية:

- كل كلية (خصوصًا الرصينة منها) تصمم مناهجها بما يتناسب مع رؤيتها ورسالتها البحثية والتربوية وخصوصيتها المناطقية والموارد المتوفرة.

- فرض امتحان موحّد يعني إلزام جميع الكليات بنفس المخرجات والطريقة وربما نوع الأمثلة والكتب المنهجية، مما يحد من التنوع والابتكار.

ب‌. تشجيع الحفظ والتلقين:

- الطالب يركز على اجتياز الامتحان الموحد أكثر من تنمية التفكير النقدي أو الإبداعي.

- وهذا يتعارض مع فلسفة الجامعات المرموقة التي تُعطي أولوية للتفكير الحر، البحث المستقل، والمشاريع التطبيقية.

ت‌. إضعاف الهوية الأكاديمية للكلية:

- بعض الكليات تتميز بتخصصات فرعية أو توجهات بحثية خاصة (مثلاً كلية طب تركز على البحث السريري، وأخرى على الصحة العامة كما ان بعض الكليات الهندسية تكون موجهة اكثر للنواحي التطبيقية وأخرى للتصاميم والابداعات النظرية).

- الامتحان الموحد قد يُجبر الجميع على منهج وسطي يذيب هذه الخصوصية.

ث‌. إضعاف الابتكار في التدريس:

- عند وجود امتحان مركزي، يُصبح هم الأساتذة "تدريب الطلبة على شكل الامتحان" بدل تطوير طرق تدريس جديدة أو مشاريع بحثية مبتكرة. وقد يكون الخوف والتوجس من الانعكاسات السلبية المحتملة عامل تثبيط للحماس والانفتاح الفكري للتدريسي.

2. مقارنة مع الجامعات العالمية:

- الجامعات العالمية الرصينة تُفضل التقييم المتنوع: أبحاث، مشاريع، امتحانات داخلية، تقييم عملي، عروض شفوية… إلخ.

- الجودة تُقاس عبر اعتماد خارجي (Accreditation) يضمن أن الكلية تحقق المعايير، لكن يترك لها الحرية في كيفية بلوغ هذه المعايير.

- في التخصصات التي فيها امتحانات موحدة (كالطب)، غالبًا الامتحان يكون في نهاية البرنامج أو في شكل "اختبارات تقدمية" تساعد الطالب ولا تُلغِي خصوصية الكلية.

ذلك إضافة للأعباء الإدارية والمالية واللوجستية الكبيرة على الكليات قبل واثناء توقيتات تلك الامتحانات التقويمية التي تأكل الكثير من جرف التقويم الدراسي، تسبقها العديد من محاضرات التهيئة والتدريب على أداء تلك الامتحانات والذي يختلف اجرائيا عن المتعارف عليه من الامتحانات التقليدية، حيث يكون الهاجس الأول والأهم للقيادات الجامعية الخروج من ربقة تلك الامتحانات دون التعرض للعواقب المحتملة لحصول طلبتهم على نتائج ضعيفة.

نعم، خلاصة القول هنا، ان الامتحانات الموحدة أثناء الدراسة الجامعية تُضعِف الإبداع والخصوصية الأكاديمية لكل كلية، وتخلق جوا من التوتر لدى الملاكات التدريسية والأهم من ذلك كله انها لا تؤدي لوضع صورة حقيقية عن مستوى المخرجات التعليمية لان أساسها خلط غير مفهوم بين فلسفة التعليم العالي الذي سمّي عاليا كونه انطلاق في فضاء الابداع المتحرك المتغير مع المعطيات الجديدة كل يوم وبين فلسفة المحفوظات والنمط الواحد الذي قد ينفع في المراحل الابتدائية الأولية التي يتوجب فيها على كل الطلبة معرفة حروف الهجاء وجدول الضرب (مثلا)... وحتى في هذه قول كثير لولا ضيق المجال، ولهذا السبب فالجامعات العالمية المرموقة لا تعتمدها وتفضّل ضمان الجودة عبر الاعتماد الأكاديمي والاختبارات المتنوعة داخل كل جامعة.

أقول قولي هذا واعيا وواثقا انها مجرد كلمات شخص بسيط لا وزن له في منظومات القرار، لكنها ابراء للذمة وليعتبرها من لا يتفق تخاريف عجائز وليمض فيما يشاء ويشتهي والله تعالى المستعان لاجيالنا الحالية والمستقبلية.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

في المثقف اليوم