آراء
زهير الخويلدي: أسباب تقهقر الموقف العربي من الاستعمار الاستيطاني

"النضال سيستمر حتى تحرير فلسطين كاملة" ياسر عرفات.
مقدمة: تعتبر قضية فلسطين محورية في التاريخ العربي الحديث، حيث شكلت نقطة تلاقي للصراع بين الشعوب العربية والمشروع الصهيوني-الإمبريالي الذي استهدف إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين. منذ بدايات القرن العشرين، تبنى العالم العربي موقفًا مقاومًا ضد هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني، مستندًا إلى مبادئ العدالة، الحق التاريخي، والدفاع عن الأرض والمقدسات. ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في هذا الموقف، حيث وصلت بعض الدول العربية إلى درجة التطبيع الكامل مع إسرائيل، مما يمثل، في نظر العديد من المراقبين، "درجة الصفر" من الرفض.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الأسباب المتعددة وراء هذا التقهقر، مع التركيز على العوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، وتسليط الضوء على التحديات التي واجهت الحركات الكفاحية العربية. ستعتمد الدراسة على مقاربة كفاحية، تركز على المقاومة كإطار تحليلي، مع النظر إلى السياقات التاريخية والتحولات الإقليمية والدولية التي أثرت على الموقف العربي.
اعتماد المقاربة الكفاحية من أجل التغيير والتحرير
المقاربة الكفاحية في هذه الدراسة تستند إلى فهم المقاومة كعملية مركزية في مواجهة الاستعمار الاستيطاني. هذه المقاربة، المستوحاة من أعمال مفكرين مثل فرانز فانون وإدوارد سعيد، ترى أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي عملية شاملة تشمل السياسة، الثقافة، والوعي الجماعي. ومع ذلك، فإن نجاح المقاومة يعتمد على عوامل مثل الوحدة الوطنية، الدعم الإقليمي، والقدرة على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية. ستُستخدم هذه المقاربة لتحليل كيفية تأثير العوامل المختلفة على تراجع الموقف العربي، مع التركيز على كيفية إضعاف هذه العوامل للروح الكفاحية.
السياق التاريخي للموقف العربي
نشأة الموقف العربي المقاوم
بدأ الموقف العربي المقاوم للاستعمار الصهيوني في فلسطين مع بدايات الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، بدعم من القوى الاستعمارية الغربية، لا سيما بريطانيا. شهدت هذه الفترة صعود الحركة الصهيونية، التي قدمت نفسها كمشروع استيطاني يهدف إلى إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين، مستندة إلى وعد بلفور (1917) والانتداب البريطاني.
الثورات الفلسطينية: شهدت فلسطين سلسلة من الانتفاضات والثورات، مثل ثورة البراق (1929) والثورة الكبرى (1936-1939)، التي عبرت عن رفض شعبي وعربي للمشروع الصهيوني. هذه الثورات لم تكن محلية فقط، بل حظيت بدعم عربي واسع، خاصة من دول الجوار مثل سوريا والعراق.
الجامعة العربية وموقف الرفض: بعد تأسيس الجامعة العربية عام 1945، تبنت الدول العربية موقفًا موحدًا ضد تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل عام 1948، مما تجلى في الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى.
تحولات ما بعد النكبة
النكبة الفلسطينية عام 1948، التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وإقامة دولة إسرائيل، شكلت صدمة كبرى للعالم العربي. ومع ذلك، استمر الموقف العربي في الرفض الرسمي للكيان الصهيوني، مع تبني شعارات مثل "تحرير فلسطين" و"وحدة الصف العربي". هذا الموقف تجسد في حروب 1956، 1967، و1973، وفي دعم منظمة التحرير الفلسطينية بعد تأسيسها عام 1964.
أسباب تقهقر الموقف العربي
العوامل السياسية
الانقسامات العربية الداخلية: منذ الخمسينيات، عانى العالم العربي من انقسامات سياسية حادة، سواء بين الأنظمة الملكية والجمهورية، أو بين الأيديولوجيات القومية والاشتراكية والإسلامية. هذه الانقسامات أضعفت الجبهة العربية الموحدة، كما ظهر في فشل التنسيق خلال حرب 1967.
اتفاقيات السلام الفردية: بدأت مصر، أكبر دولة عربية، في الخروج من دائرة الرفض باتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي أدت إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979. تبعتها اتفاقيات أخرى، مثل اتفاقية أوسلو (1993) مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاقية وادي عربة (1994) مع الأردن.
التطبيع الحديث: شهدت العقدين الأخيرين موجة من التطبيع، خاصة مع اتفاقيات أبراهام (2020) التي شملت دولًا مثل الإمارات، البحرين، والمغرب. هذه الاتفاقيات عكست تحولًا من الرفض الكامل إلى القبول الرسمي بالكيان الصهيوني.
العوامل الاقتصادية
التبعية الاقتصادية للغرب: العديد من الدول العربية تعتمد اقتصاديًا على الدعم الغربي، خاصة الولايات المتحدة، التي كانت داعمًا رئيسيًا لإسرائيل. هذه التبعية دفعت بعض الأنظمة إلى التخلي عن موقف الرفض مقابل ضمانات اقتصادية واستثمارات.
الضغوط الاقتصادية الداخلية: في ظل الأزمات الاقتصادية التي واجهتها دول عربية، مثل ارتفاع معدلات البطالة وتدهور البنية التحتية، أصبحت قضية فلسطين أقل أولوية بالنسبة لبعض الأنظمة التي ركزت على الاستقرار الداخلي.
العوامل الاجتماعية والثقافية
تراجع الوعي القومي العربي:
شهد العالم العربي تراجعًا في الخطاب القومي العربي الذي كان يربط قضية فلسطين بالهوية العربية. هذا التراجع تزامن مع صعود التيارات الطائفية والمحلية.
تأثير الإعلام: الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي المدعوم خارجيًا، ساهم في تسويق صورة إسرائيل كدولة "ديمقراطية" و"متقدمة"، مما أثر على الرأي العام في بعض الدول العربية.
إضعاف الحركات الشعبية: القمع السياسي الذي مارسته بعض الأنظمة العربية ضد الحركات الشعبية المؤيدة لفلسطين، مثل الاحتجاجات والمظاهرات، أدى إلى تقليص دور المجتمع المدني في دعم القضية. العوامل الدولية
الهيمنة الأمريكية: الولايات المتحدة، كقوة إمبريالية رئيسية، لعبت دورًا كبيرًا في دعم إسرائيل وتسويقها كحليف استراتيجي في المنطقة. الضغوط الأمريكية على الدول العربية، سواء عبر المساعدات أو العقوبات، ساهمت في دفعها نحو التطبيع.
التغيرات الجيوسياسية: صعود إيران كقوة إقليمية وتهديدها لبعض الدول العربية دفع هذه الدول إلى التقارب مع إسرائيل كحليف محتمل ضد إيران، خاصة في ظل الصراعات الطائفية في المنطقة.
ضعف المقاومة الفلسطينية:
الانقسامات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية، خاصة بين فتح وحماس، أضعفت الجبهة الفلسطينية، مما انعكس على الموقف العربي الداعم.
المقاربة الكفاحية وتحديات المقاومة
دور المقاومة في مواجهة التقهقر
على الرغم من تقهقر الموقف العربي الرسمي، استمرت الحركات الكفاحية الفلسطينية والعربية في مقاومة المشروع الصهيوني-الإمبريالي. تشمل هذه الحركات:
المقاومة المسلحة: مثل عمليات المقاومة التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، ولاحقًا حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي.
المقاومة الشعبية: مثل الانتفاضة الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2005)، التي عكست رفضًا شعبيًا واسعًا للاحتلال.
حركة المقاطعة: التي أصبحت أداة كفاحية عالمية للضغط على إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا.
التحديات التي واجهت المقاومة
القمع العسكري الإسرائيلي: استخدام إسرائيل القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة، مثل الحروب على غزة (2008، 2012، 2014، 2021)، أدى إلى إنهاك المقاومة.
الانقسامات الداخلية: الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وحركات المقاومة أضعف الجبهة الكفاحية.
تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية: مع التطبيع، قل الدعم المادي والمعنوي للمقاومة من الدول العربية، مما جعلها تعتمد بشكل أكبر على الدعم الشعبي أو قوى إقليمية مثل إيران.
تحليل التقهقر في ضوء المقاربة الكفاحية
من خلال المقاربة الكفاحية، يمكن فهم تقهقر الموقف العربي كنتيجة لتآكل عوامل القوة التي دعمت المقاومة تاريخيًا. هذه العوامل تشمل:
فقدان الوحدة العربية: الوحدة كانت العمود الفقري للمقاومة، وتفككها أضعف القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني.
تحول الأولويات: تحول تركيز الأنظمة العربية نحو قضايا داخلية أو إقليمية أخرى (مثل الصراع مع إيران أو الإرهاب) أدى إلى إهمال قضية فلسطين.
تغيير السردية الثقافية: تراجع الخطاب القومي والكفاحي لصالح خطابات الاستقرار والتعايش أثر على الوعي الجماعي.
ومع ذلك، فإن المقاربة الكفاحية تؤكد أن المقاومة لم تنته، بل تطورت إلى أشكال جديدة، مثل المقاومة الثقافية والاقتصادية، التي تحافظ على جذوة الرفض للاستعمار الاستيطاني.
خاتمة
"فلسطين عظمة عالقة في حلق العالم." إلياس صنبر
إن تقهقر الموقف العربي من الاستعمار الاستيطاني في فلسطين إلى درجة الصفر من الرفض هو نتيجة تفاعل عوامل سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ودولية. هذا التقهقر لا يعكس بالضرورة نهاية المقاومة، بل يشير إلى تحول في ديناميكيات الكفاح العربي والفلسطيني. المقاربة الكفاحية تؤكد أن المقاومة، بأشكالها المختلفة، تبقى العامل الأساسي في الحفاظ على القضية الفلسطينية حية. في المجمل يمكن تقديم جملة من
التوصيات وهي: إعادة بناء الوحدة العربية: العمل على توحيد المواقف العربية من خلال مؤسسات مثل الجامعة العربية، مع التركيز على دعم المقاومة الفلسطينية.
تعزيز الوعي الشعبي: تفعيل دور الإعلام والتعليم في نشر الوعي بقضية فلسطين كجزء من الهوية العربية.
دعم المقاومة الشعبية: تقديم الدعم المادي والمعنوي لحركات المقاومة الشعبية للضغط على إسرائيل دوليًا.
مواجهة التطبيع: تشجيع الحركات الشعبية على مواجهة التطبيع من خلال الضغط على الأنظمة العربية للعودة إلى موقف الرفض. ألم يكتب الشهيد غسان كنفاني "على هذه الأرض ما يستحق أن نعيش من أجله." فمتى تعود الأرض الى أهلها ويسترجع الشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي