قراءة في كتاب
قصي الشيخ عسكر: وقفة عند كتاب "الإنسان الذي سبق الثورة"
الجوانب الإنسانيّة في سيرة سلام عادل للكاتبة السيدة سعاد الراعي
شغلت خلال ثلاثة أيام مرّت بقراءة كتاب جديد للأديبة الروائية السيدة سعاد الراعي عنوانه (الإنسان الذي سبق الثورة) وقد شدّتني إلى الكتاب مجموعة أمور منها: أسلوب السيدة الراعي الرشيق الجميل، وأحداث كبيرة وعظيمة تلاحقت بسرعة مذهلة عايشتها وأبناء جيلي خلال بدءا من عام 1959 إلى عام 1963 إذكّر أنّي من مواليد 1951 وكنت ناجحا من الصف الأوّل الابتدائيّ إلى الثاني حين حدثت الثورة.
ثالث هذه الأمور شخصيّة المرحوم الشهيد سلام عادل إذ لم تكتب السيدة الراعي كتابها عن الشهيد سلام عادل لكونه أحد أقاربها وقرابته ليست بعيدة فهو ابن عمّة والدتها لكنها كتبت مؤلفها الشيق هذا إحقاقا للحق وإنصافا لشهيد يجب أن تُحيًى ذكراه التي لا تمحوها الأعوام والسنين.، ولا يخفيها التجاهل والتعتيم.
لقد استعرضت الكاتبة حقبة مهمة من خلال بعض من سيرة سلام عادل، بعض اللقطات صوّرت حياته ونضاله في فترة العهد الملكي ومطاردة الشرطة وأفراد الأمن له، وتفننه في التخفّي والتمويه، والأهم من ذلك كلّه تعامله الإنسانيّ وعدم تعاليه واهتمامه بالناس الطيبين البسطاء بخاصة العمال والفلاحين.
وقد اقترنت تلك الشخصيّة بنبذ الانتقام والقسوة في مرحلة مارست الأحزاب القومية الفاشيّة كل أصناف القتل وأبشع صور التعذيب بحقّ خصومهم لمجرد التهم الباطلة التي لا يدعمها دليل أو برهان.
في الكتاب نقرأ أن سلام عادل مثلما كان يدعو إلى بلد دمقراطيّ هو العراق مارس فكرته عمليّا مع رفاقه فكان معلما يطبق في الواقع ما يؤمن به وكان يحارب النفس الدكتاتوري والسلطوي، ويدعو إلى الحوار مع التكتلات والتجمعات التي تستهدفه، فهو إنسان بدعو إلى الرحمة والسلام في وقت بدت فيه ملامح العنف تسود البلد وسطوة الانتقام.
لا يمكن أن نقول من خلال الرحمة التي آمن بها القائدان الكبيران الشّهيدان عبد الكريم قاسم وسلام عادل إن العراق أصبح ضحية بسببهما فأنا حين أتذكّر رحمة عبد الكريم قاسم أتذكّر المبادئ العليا التي وضع أسسها علي بن أبي طالب قيل قرون حين لم يعاقب من لم يبايعه بعكس من سبقه من خلفاء، ومن رحمة سلام عادل وأخلاقه أنّه حين حاول البعثيون والقوميون ومنهم صدام حسين اغتيال الزّعيم، فأصيب إصابات بالغة ونُقٍلَ إبى المشفى كان بإمكان الحزب الشيوعي حيناك بأمر من سلام عادل أن يوعز إلى أيّ طبيب في المشفى وما أكثر الأطباء الشيوعيين أن يصفّي الزعيم ويُعلن عن استشهاده بسبب محاولة الاغتيال تلك، فيصد الشيوعيون إلى الحكم بيسر وسهولة غير أن أخلاق سلام عادل وتربيته منعاه أن يفعل ذلك فلا خير في حكم يأتي عن طريق خيانة وكذب ودجل ورياء.
لكن الأخلاق العالية التي تميّز لها سلام عادل وقادة ثورة تموز (عبد الكريم قاسم، المهداوي، وصفي طاهر، عبد الكريم الجدّة) كانت تتراجع وتتهاوى لسببين رئيسين:
السبب الأوّل :زحف الأغلبية \الجماهير\ عموم الشعب\الكتلة الأكبر\ نحو الحزب الشيوعي والحديث باسمه، لقد تطوّعت الأغلبية وتحدثت باسم الحزب الشيوعي، وفعلت أفعالا نُسبَت إليه في حين مارسها همج رعاع كانوا يهتفون باسم الزعيم والحزب الشيوعي والاتحاد السوفيتي، فيشيع في العالم أنّهم شيوعيون ولم يكن بإمكان سلام عادل أن يستنكر ولا أيّ يساريّ ثوريّ أن يدين أعمالهم ماداموا يهتفون باسم الثورة ويدَّعون أنهم يطاردون أعداء ها، ومثال على ذلك قضيّة مجازر كركوك التي ذكرتها المؤلفة السيدة سعاد الراعي، وبينت أنّها آذت الزعيم وسلام عادل.
لقد حكى لي أحد التركمان الشيعة، والمعروف جيدا أن التركمان الشيعة والأكراد الفيلية لديهم تعاطف كبير مع أهل الجنوب، قال لي ذلك الرجل، في ذلك الوقت كانت محلات التركمان تعلن ولاءها لتركيا فصور كمال أتاتورك كانت منذ العهد الملكي ترفع على الحدران علنا في المحلات والمقاهي التي يملكها التركمان وفي بيوتهم أيضا .كانوا يعدّون أنفسهم جزءا من تركيا التي كانت زمن المدّ الثوري عضوا في حلف بغداد، الوضع استفزّ اليساريين وعامة العرب والأكراد في المدينة فوجدوا متنفسا لهم في الحزب الشيوعي الذي رفعوا شعاراته ومارسوا القتل باسمه .
لسنا نسوّغ بل هذا الذي حدث!
المعضلة الثانية التي واجهت سلام عادل هي التكتل الغريب الرباعي الذي وقف فيه صفا واحدا كلّ من الشيعة والإخوان المسلمين وعموم السنة وحزب البعث والقوميين الناصريين ضدّ الحزب الشيوعي العراقي والاتحاد السوفيتي تحت فتوى شيعية اتفقوا عليها هي أن الشيوعية كفر وإلحاد، وقد وجدنا قوميين ناصريين كبار مثل رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز، وبعثيين مثل رئيس الوزراء طاهر يحيى يزورون مراجع النجف، وبقيت علاقة المرجعيّة بالقوميين إلى مابعد انقلاب البكر واعتقال البزاز حتى أنّ مرجع الشيعة الأعلى رفض أن يجتمع بالبكر إلا أن يطلق سراح البزاز، ورفض أن يتوسط بين البكر وشاه إيران بطلب من البكر نفسه إلا بإطلاق سراح البزاز !
إنّ تحالف الشيعة مع الإخوان السلمين واستصدار فتوى من شيخ الإخوان عبد العزيز البدري والمرجعية في النجف أسال دما غزيرا يوم 8 شباط تلك الدماء التي افتخر بسفكها المرجع حسن الشيرازي حين كتب في أحد كراريسه لقد قاتلنا الشيوعيين في أزقة بغداد وطاردناهم من بيت لبيت (على غرار زنقة زنقة) وشرّ البيت ما يضحك!
أضف إلى ذلك أن التحالف الشيعي الإخواني بين مرجعية النجف وإخوان العراق ومصر والأردن أحّر العراق بعد سفكه للدماء والانقلابات أخّر العراق وقضى على أحلامه وطموحاته وأتى بالبعثيين الذين مزّقوا أمّة العرب شرّ تمزيق، وأعود وأذكّر تلك الأحزاب الدينيّة بواقع مدهش حقّا حيث نجد أنّه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستسلامه لم يبق إلّا إيران في مواجهة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ولا أحد يقف معها سوى الذين هم كفار برأي المرجعيّة حينذاك هؤلاء الذين يقفون مع إيران هم كوبا الشيوعية وفنزويلا الشيوعية بقيادة الرائعين شافيز ومادرو، وكولومبيا وليس من يقف معها وهي دولة دينية غير هؤلاء وروسيا البيضاء الشيوعية.!
لست شيوعيا ولا أؤمن بحكم الحزب الواحد لكن من حقي أنا الذي هدرت طفولتي أن أحاسب من يقف مع فكر شوفيني ويؤيده وينحاز له على حساب فكر آخر سليم النية حسب مايؤديه من أعمال ولقد كنا في ذلك الوقت بأمس الحاجة لأن نقف مع الكتلة الشرقية ونطالب أي حزب أن يحقق العدالة قدر الإمكان وليس التكفير والتسقيط وهذا مافعله التحالف المرجعي مع الإخوان والقوميين حيث منح الحجة لقتل أبنائه ثم انقلبت دائرة السوء عليه.
لقد كانت مهمة الشهيد سلام عادل صعبه فوق حدود الاحتمال ولم يكن أمامه من حل إلا أن يضحي بنفسه فتعود على العراقيين من جدبد صيغة كربلاء نفسها لكن بشكل آخر أكثر وحشية وانتقاما.
لقد عشت ساعات جميلة مع الكتاب، ساعات على الرغم من كونها تبوح بالحزن وتفوح بالرعب إلّا أن الرعب الذي عاشه الشهيد سلام عادل صاغه قلم السيدة سعاد الراعي بأسلوب رزن رشيق يعبر عن حقائق جسّدعا إنسان بصيغة وطن.
***
د. قصي الشيخ عسكر






