قراءة في كتاب
إبراهيم برسي: في حضرة الوحشية.. رثاء الكائن الذي لم يكتمل

قراءة في كتاب أشيل مبيمبي: "الوحشية: فقدان الهوية الإنساني"
ثمة كتب لا تُقرأ بل تُرتّل. و”الوحشية” ليس نصًا يُفكّر في الإنسان، بل يُفكّك فكرة الإنسان ذاتها. ليس هذا الكتاب نزهة فكرية، بل مسيرٌ عبر دروب شائكة من الأسى الفكري والتحليل الوجودي، يمضي فيها أشيل مبيمبي وهو يستحضر أقصى طاقات اللغة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا السياسية ليصوغ لنا أحد أكثر النصوص الراديكالية صدقًا في مساءلة مصير الكائن البشري في عصر تقني متوحش.
في “الوحشية”، لا نجد فقط تأملًا في العنف، بل اكتشافًا لما بعد العنف، في لحظة انفجاره الصامت داخل جسد الحضارة، لا في أطرافها كما يظن البعض. الوحشية هنا ليست فعلاً فالتًا من سياق أخلاقي، بل هي جزء أصيل من النسق الذي يُنتج الحياة ذاتها كشيء يمكن الاستغناء عنه. وكأن الحداثة الغربية وقد بلغت ذروتها، قد بدأت تأكل نفسها، وتحيل كل ما لم يُصغَ وفق نموذجها إلى فتات لاهوِّي، مسلوب القدرة، محروم من الاندراج في خطاب الإنسان.
يتحرك مبيمبي في تضاريس هذا النص بمفاهيمه الخاصة، فتراه يبتكر “براديغمًا أنثروبولوجيًا” يعيد به التفكير في جسد الإنسان، في مساحته، في دمائه، في قيمته، في تصنيفه، وفي لحظة خروجه من إنسانيته دون ضجيج. إنه لا يكتب عن ما بعد الكولونيالية فحسب، بل عمّا بعد الكائن البشري ذاته. فمن “الإنسان الزنجي” بوصفه كائنًا معرًّى منذ لحظة الاكتشاف، إلى “الإنسان الرقمي” باعتباره نقطة عبور بيانات، يقيم مبيمبي هذا الحداد المتواصل على هوية لم يُعترف بها أصلًا، وها هي تفقد الآن حتى إمكانية المطالبة بالاعتراف.
يَشتغل النص بمقاطع لغوية تكاد تكون طقوسًا سردية، كأنها أنشودات فكرية تنبثق من نواة مشروخة، لا يُراد لها أن تندمل. هكذا نقرأ فصولًا عن “الفحولة” لا كنوعٍ بيولوجي، بل كأداة هيمنة إيكولوجية واقتصادية، وعن “الدم الصناعي” لا كابتكار طبي، بل كتحقيق لشبه-كائن لا ينتمي لا إلى الطبيعة ولا إلى الثقافة، بل إلى منطقة الفراغ الوجودي التي يحكمها الخوارزمي والسلعي والاستبعادي.
ويمتد نقد مبيمبي ليشمل “تقنيات التشفير”، “الذكاء الاصطناعي”، “الاستعمار الرقمي”، “سياسات الحدود المتنقلة”، و”الاقتصاد الحيوي للدم”، مؤطرًا كل ذلك ضمن مشروع فكري يُدين الوحشية لا بصفتها نتوءًا عارضًا، بل بوصفها نظامًا متكاملًا لإنتاج العالم وإدارة موارده الحية والميتة. إنه لا يحاكم الفاعل بل بنية الفعل ذاتها.
غير أن هذا المشروع الفلسفي لا يصدر من برج عاجي، بل من واقع إفريقي–جنوب عالمي، حيث يعيد مبيمبي بناء نظرية “الاختفاء الهادئ للإنسان” استنادًا إلى ملاحظاته الطويلة على السياسات النيوليبرالية في إفريقيا، من الكاميرون إلى جنوب إفريقيا، ومن دوائر رأس المال إلى مخيمات اللاجئين. وحين يتحدث عن “الدم المؤتمت”، أو “الخرائط البيولوجية للهيمنة”، فهو لا يصف المستقبل بل الحاضر المعاش في دول الجنوب: حيث تُختزل قيمة الفرد في قابليته للاختبار، وجسده في قابليته للتحلُّل، وحدوده في قابليته للقياس، وموته في قابليته للتسعير.
إنه عمل يُربك التصنيفات: فهو فلسفة لكنه يتجاوز نسقية فوكو، سوسيولوجيا لكن دون أدوات بوردييه، نقد كولونيالي لكنه لا يُطمئن القارئ بعزاء الهوية. إنه عمل يُفكر من داخل التهشيم، لا لينقذ بل ليُسائل إمكانية النجاة نفسها، ويكتب من موقع الغياب لا ليستعيد الغائب بل ليُعلن بأن الغياب صار طبيعة الكائن لا ظرفه.
ولعل أهم ما يميّز هذا النص، إلى جانب بنيته المفاهيمية المركبة، هو لغته التي لا تستجيب لمتطلبات العرض الأكاديمي الرتيب، بل تتوهّج في استعاراتها، وتتلوّى عبر مفاصل الجُمل، حاملةً في طيّاتها تجربة فكرية قاسية، ممتنعة على التسطيح، متعالية من دون نرجسية، وشعرية من دون استسلام لجمالية مجانية. ورغم هذا، لا تُخفي اللغة بعض التوتّر البنيوي بين نزعة مبيمبي الشعرية والتزامه التحليلي، وهي توتّرات كان يمكن للقراءة أن ترصدها كعلامة على تحوُّل المفكر من مقام المُشرّح إلى مقام المنكوب.
الهوية، كما يصوغها النص، لم تعد استحقاقًا بل مفارقة. والمكان لم يعد جغرافيا بل خوارزمية. والحياة لم تعد هبة بل مادة خام تُبرمج وتُقنَّن وتُسعَّر. وهكذا يبدو مبيمبي في هذا الكتاب كمن يؤبّن “الإنسان” وهو في ذروة حضوره، لا ليرثيه بل ليُعلن أن هذا الحضور لم يكن يومًا إنسانيًا بما يكفي.
في خضم هذا كله، لا يدعو النص إلى إصلاح، ولا إلى مقاومة بالشكل المباشر، بل يكتفي بإعادة توصيف الكارثة. تلك هي نبرته الفلسفية العالية: التشخيص بعمق، لا الوصف؛ الإدانة بالتفكيك، لا بالاستنكار؛ إعادة توزيع الضوء على الحُفر بدلًا من تقويم الطريق.
لقد كتب أشيل مبيمبي عملاً يُضاهي فوكو في “المراقبة والعقاب”، ويُزاحم فانون في “معذبو الأرض”، ويخاصم الحداثة بلغة من صميم معاجمها. وبهذا، فإن الوحشية ليست كتابًا عن الوحشية فحسب، بل وثيقة فلسفية عن نهاية مشروع الإنسان نفسه كما بشّرت به أوروبا، وبداية ما بعد الإنسان ككائنٍ خاضع للتشفير، للمسح، للحذف، ولإعادة التكوين.
وإذا كانت هذه الدراسة لا تكفي، فلأن الكتاب ذاته لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يُسكن القارئ في داخله، ليعيد تشكيله. وبهذا المعنى، فإن من يقرأ “الوحشية” لا يخرج منه كما دخل. إذ أن الذي خرج، خرج محمولًا على سؤال لم يعُد يخص غيره.
لا خاتمة لهذا النص، كما لا خلاص من الوحشية التي لم تعد قيدًا طارئًا على الجسد، بل نسيجًا دقيقًا في بنية العالم.
فمبيمبي لا يكتب ليُطمئن، بل ليخلع عن الإنسان وهم اكتماله، ويتركه على حافة المعنى، مُعلَّقًا بين أن يكون آلةً محسوبة، أو ذاكرةً مُسحوبة.
هكذا ينتهي النص كما بدأ: بلا ضمان، بلا يقين، وبسؤالٍ يظل مشرعًا كجرح مفتوح في جبين الحداثة.
***
إبراهيم برسي