قراءة في كتاب

تنيسي وليامز: فجأة في الصيف الماضي.. سيباستيان أو الوجه الآخر

للكاتب المسرحي تنيسي وليامز

ترجمة: محمد سهيل احمد

***

* إلى أي مدى يمكن للكاتب ان يقترب من شخوصه التي يبتكرها ومن ثم يقذف بها إلى أضواء المسرح شديدة السطوع ؟ لكي نخترق قشرة هذا الأثر المسرحي الفذ الذي كتبه تنيسي وليامز؛لابد من الاتكاء على أكثر من مرجعية أولها طبيعة الحياة التي عاشها الكاتب المسرحي العالمي تنيسي وليامز مرغما أو باختياره الشخصي. ودرجة تأثيرها عليه حياتيا وإبداعيا، وثانيهما نمط المخزون الإبداعي للكاتب فقد كان وليامز شاعرا وكاتبا قصصيا له اكثر من مجموعة في كلا الحقلين قبل ان يصبح كاتبا. ان (سيباستيان) الشخصية المحورية في مسرحية تنيسي وليامز (فجأة في الصيف الماضي) التي انجزها كتابيا عام 1957 هي واحدة من اكثر الشخصيات اقترابا من الكاتب، ومن هنا تبدو الإحاطة بطبيعة حياة تنيسي وليامز المبكرة ذات أهمية بالغة في فهم مجرياتها التي شغلت ما يزيد عن التسعين صفحة من القطع المتوسط عبرمشهد وحيد مؤلف من أربعة فصول طويلة متعاقبة.

لقد عرضت مسرحية (فجأة في الصيف الماضي Suddenly Last Summer) جنبا الى جنب مسرحية (المسكوت عنه Something Unspoken) تحت عنوان جمعهما معا هو(جاردن دستركتGarden District) على مسرح نيويورك الكائن في الجادة الاولى بنيويورك في السابع من يناير 1958. كما ان صيت تنيسي وليامز قد ذاع خاصة بعد ان قدم للمسرح الأمريكي والعالمي في آن معا وبالذات في حقبة الأربعينيات عددا من الأعمال المسرحية الخالدة مثل (عربة اسمها الرغبة) وغيرها، ما حدا بهوليوود للتعاقد معه أكثر من مرة، وهكذا تحول نص (فجأة في الصيف الماضي) الى فيلم سينمائي من إخراج (جوزيف.ل.مانكويتز) ومن بطولة كل من اليزابيث تايلور وكاترين هيبورن ومونتغمري كليفت.

البواكير

ولد توماس لانييه وليامز   Thomas Lanier Wliliams في السادس من آذار 1911في مدينة كولومبس احدى المدن المطلة على المسيسيبي. وترعرع في كنف جده لأمه وكان رجل دين كنسيا متحدرا من اصول ويلزية (نسبة إلى ويلز بانجلترا). اما أبوه كورنيليوس وليامز فقد عمل بائعا متجولا وكان معروفا عنه نهمه الشديد للكحول. وكان الأب في الحقيقة يميل لـ (داكن) شقيق توماس الاصغر بسبب هشاشة تكوين توماس الروحي الذي غلب عليه الجانب الأنثوي. وسيكون لذلك (الاختلال) السايكولوجي آثاره الباهظة على حياة توماس وبالتالي على كتاباته الابداعية مسرحا وشعرا وسردا قصصيا؛ سلبا وإيجابا. وكانت والدته وشقيقته،كلتاهما، تعانيان من نوبات من الهستيريا قادتهما إلى المصحات العقلية.

هذه التشابكات حدت بتوماس إلى اتخاذ الكتابة ملاذا يهرب اليه من مشاكله الأسرية المتفاقمة. وفي السادسة عشرة من عمره نال وليامز، اثر انتقال الأسرة إلى المدينة الجامعية في (ميسوري)، جائزة قدرها خمسة دولارات نظير مقالة كتبها آنذاك حملت عنوان (أيمكن لزوجة صالحة ان تصبح رياضية صالحة؟). عبر تلك المحاولة انتقل إلى عالم الكتابة حتى آخر لحظات حياته. وفي تلك الفترة اتخذ توماس لنفسه اسما آخر هو (تنيسي وليامز Tennnessee Williams) الذي عرف به فيما بعد. وكانت مسرحيته الاولى (عاصفة الربيع) بداية رحلة طويلة شاقة في عالم المسرح قدم بعدها للمسرح الامريكي والعالمي مسرحيات ستفضي به لأن يصبح واحدا من رواد المسرح العالمي وواحدا من أضلاع مربع أثرت المسرح الأمريكي المعاصر هم (يوجين أونيل)، (آرثر ميلر)،(نورمان ميلر) و(تنيسي وليامز) الذي اثرى المشهد المسرحي العالمي بنصوص مثل (هبوط اورفيوس)، (عربة اسمها الرغبة)، (قطة على سطح صفيح ساخن)، (وشم الوردة)، (ليلة الاغوانا)، و(فجأة في الصيف الماضي) وغيرها.

سيباستيان

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا اختار وليامز اسم سيباستيان لشخصية المسرحية المحورية الغائبة الحاضرة في نصه المسرحي الذي يقطر بكل ما هو غنائي وشاعري ومفزع؟

في الأساطير الرومانية ولد سيباستيان في كنف اسرة ثرية اعتنقت المذهب المسيحي ابان القرن الثالث. وكان سيباستيان الفتى الجميل من المفضلين لدى الامبراطور الروماني (ديوكليتيان) حتى انه عينه قائدا للحرس الامبراطوري في الجيش الروماني غير ان اعتناقه الدين المسيحي سرا ألّب عليه الوسط الذي كان يعيش فيه فقدم للمحاكمة وحكم عليه بأن يقتل بسهام الجنود بعد توثيقه إلى جذع شجرة. وشأنه شأن جان دارك ــ مع الفارق طبعا ــ يتحول سيباستيان إلى قديس. وسرعان ما يسطع اسمه ابان عصر النهضة فما من رسام لم يرسم ولو لوحة واحدة للقديس سيباستيان.

وجنبا إلى جنب ذلك التأثير العرفاني الايقوني لفكرة القداسة، يروى ايضا ان الامبراطور ديوكليتيان اتخذ من سيباستيان معشوقا له. ومن تلك الحكاية اقترن اسم سيباستيان بالشذوذ الجنسي، وهو تأثير سيظل طاغيا حتى عصرنا الحديث ليمسي اسم سيباستيان معبود الرسامين المثليين. والواقع ان اختيار وليامز لهذا الاسم ينم عن براعة تقنية. ان عددا كبيرا من اللوحات تصور السهام المغروزة في جسد سيباستيان كرمز للأعضاء الجنسية المسددة نحو جسد سيباستيان الانثوي المترف، وهو توظيف يعكس وعي الكاتب العالي بأدواته البلاغية. ويمكن القول ايضا ان جرعات الشعر يمكن ملاحظتها كأغزر ما تكون في مسرحيتي وليامز (هبوط اورفيوس) و(فجأة في الصيف الماضي) ؛ ما يعكس روحا متوهجة بالغنائية والإيقاع والشاعرية وهي سمات غير منتشرة في عموم الأدب الامريكي. قد نجدها في فوكنر مثلا الذي بدأ حياته شاعرا عبر ديوانه المبكر (آله الحقول الرخامي) لكننا قلما نعثر على الغنائية لدى همنغواي او شتاينبك او آخرين.

لا يتجادل اثنان في درجة التشابه السايكولوجي الكائنة بين شخصية الكاتب تنيسي وليامز وسيباستيان. لا ننسى في هذا المضمار العلاقة الشاذة بين الكاتب وفرانك ميرلو، وهو شخص صقلي الأصل عمل في البحرية الامريكية ردحا من الزمن وكان واحدا من أصدقاء الكاتب. في مذكراته التي بدأ وليامز بكتابتها بين عامي 1972 و1975 يكرر وليامز جملة " ان المسرحيات تتحدث عن نفسها ". ويقول ايضا " ان كل العلاقات الحميمة تتحول لاحقا إلى قصائد جميلة ". ولو عدنا إلى الصفحة 12 من (فجأة في الصيف الماضي) سنلتقي بالحوار التالي للسيدة (فينبل) أم سيباستيان:

" كلا.. ما زلت لا تفهم شيئا، ولكن قبل ان انتهي ستفهم.. سيباستيان كان شاعرا ! ما قصدته بقولي ان حياته كانت مهنته ذلك لأن مهنة الشاعر هي حياة الشاعر.. "

افكار من هذه؟ السيدة فينبل ام تينيسي وليامز؟

لا يبدو الفارق شديد الأهمية. فقد تختلف الأوعية لكن المحتويات تتشابه. لقد سئل وليامز ذات مرة عن معنى ان يكون المرء كاتبا فأجاب قائلا:

" أنْ تكون كاتبا يعني ان تكون حرا.. وان تكون حرا يعني ان تنجز حياتك ".

رحل تنيسي وليامز في الرابع والعشرين من شباط 1983 حين غص بغطاء لقطرة عين انحشر في قصبته الهوائية، وتقول رواية اخرى استنادا على تقرير الشرطة انه مات بسبب ادمانه على الممنوعات. وثمة رواية ثالثة تحدثت عن اصابته بسرطان الثدي، وهو داء قلما اصيب به الذكور !

لكن هل يموت الكاتب حقا ؟ الاجابة تكمن في ما تركه من أرث ابداعي سيظل يترك بصمته على جمهور المتلقين والمشاهدين لأجيال، وربما لقرون.

***

 

في المثقف اليوم