قراءة في كتاب
علجية عيش: من خلال كتابه مالك بن نبي المهندس القرآني

مهنا الحبيل.. مالك بن نبي عقل النهضة ورائد المقاومة الفكرية
هي قراءة في كفاح المفكر مالك بن نبي ونظريته القرآنية أجراها الباحث مهنا الحبيل قدمه المفكر الجزائري الدكتور بدران بن لحسن، يبرز مهنا الحبيل في كتابه "مالك بن نبي المهندس القرآني" أن مالك بن نبي بدأ بنفسه في نقد الذات وهذه عادة الباحث الحر الملتزم من باب الفصل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي وقد فتح الباحث آفاقا واسعة لقراءة مالك بن نبي ومناقشة أفكاره ووضعها تحت المجهر لاختبارها ونقدها وتطويرها، وهو كما يقول بدران بن احسن كتابٌ الذي كتب مقدمته يحتفي بالمنجز الفكري لمالك بن نبي، حيث ربطه بجهود الأمة في استئناف دورها الحضاري، لن نجتر بكلام من سبقونا إليه بالكتابة عن رؤية الباحث مهنا الحبيل لمالك بن نبي، فلكل أسلوبه والزاوية التي يتناول منها فكرته، خاصة وأن الباحث ذكر أسماء شخصيات فكرية عرفها التاريخ الإسلامي ومن بينهم المفكر الإسلامي سعيد النورسي، وقد عدت إلى رسائل هذا المفكر (وهي بحوزتي) لأقارن بينه وبين صاحب الكتاب، شكرا لمهنا الحبيل على إهداءه لي كتابه لأضيفه إلى مكتبتي المنزلية الإلكترونية
يمثل مهنا الحبيل المفكر الذي لا يتوقف عن نقد الظاهرة الفكرية ويتقاسم المشكلات مع المفكرين العرب، حيث يتناول المسائل والقضايا بالنقد البناء، فهو من مدينة الظهران السعودية عام 1963 ونشأ في الأحساء، عاش أوضاع الجالية العربية في المهجر، وما عانته من صراعات، يعمل الحبيل لدى المركز الكندي للاستشارات الفكرية، فمنذ مطلع 2019 وهو يعكف على تحرير دراسات فكرية جديدة، قامت على مراجعات وتتبع وعي ونقد، لأبرز الجدليات المؤيدة والناقدة، لمآلات الفلسفة الغربية المعاصرة، وتختط دراساته الحديثة ما يسميه هو الطريق الثالث في منصة اليوم الفكرية، التي تقوم على قاعدة الأخلاق والقيم، بغية إعادة تحرير المرجعية الإنسانية فيها، معتمداً على معادلة يعمل عليها في هذا الصدد، تحت مسمى معادلة المعرفة الإسلامية، في كتابه الذي بين أيدينا نقطع رحلة مع المفكر مهنا الحبيل في قراءة لكتابه " مالك بن نبي المهندس القرآني" لنقف على الملاحظات التالية.
في الفقرات الأولى من كتابه، ربط المؤلف الأحداث التي عاشتها الأمة الإسلامية وهي تواجه الاستعمار بشخصيات وثّقوا لهذه الأحداث وكان اختياره المفكر الجزائري مالك بن نبي من خلال معالجته مشكلات النهضة والمشكلة الحضارية، وقد وصف مهنا الحبيل مالك بن نبي بالمفكر المسلم العميق إذ يقول أن لمالك بن نبي موقف صارم من خلط الجوهر بإرث المستعمر أو بصادراته، فهو كما يضيف في مقدمته مناضل في سبيل خلق مدار حرية جديدة لنهضة المسلم في عالم إنساني حرّ، وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين تطرق فيهما إلى المعارك التي خاضها مالك بن نبي وهو يواجه التيار الفرانكفوني الذي حاصره من داخل وخارج الجزائر وبلغته، وقد جاء كتاب مهنا الحبيل لينتصر لمالك بن نبي رغم توجيه له بعض الانتقادات ويخوض رحلة تحرير وفاء لجهاده، ويُفْهَمُ من كلام مهنا الحبيل أنه أراد أن يوصل الجيل الحالي بمالك بن نبي ويدفعه إلى قراءة أفكاره، طالما مسيرة مالك بن نبي الفكرية هي دعوة عالمية لتحقيق الحرية الإنسانية، جاء هذا الكتاب بعد اطلاع صاحبه على مذكرات مالك بن نبي في جزئها الثاني (العفن) فكان عليه أن يتخذ بين الحين والأخر منهجا نقديا لتوضيح الصورة وفي الوقت نفسه يكون له منصفا، أي أنه استعمل لغة الحياد، خاصة وأن مذكرات مالك بن نبي كما يقول هو تمثل جسرا مهما لمن أراد قراءة مالك بن نبي كشخصية فكرية عايشت أحداثا تستحق وضعها في مخبر التحليل وليس المرور عليها مرور الكرام، ثم توثيقها والتأريخ لها،و قد ساعدته البيئة التي نشأ فيها مالك بن نبي على فهم أفكاره وأطروحاته الفكرية، في هذا الكتاب نقرأ رسالة مهنا الحبيل إلى الشباب العربي / الجزائري المسلم، من الصعوبة بمكان إدراجها هنا فالرسالة طويلة ومشحنه بالأفكار والعواطف ولا شك أن من قرأ كتاب مهنا الحبيل وقف على معاني حروفها وكلماتها المعبرة، وهي رسالة كتبها ناقد يعرف قدر الرجال وقيمتهم ويضعهم ليس في مصفة المفكرين فحسب، بل في قائمة العلماء الأمجاد، وقد وقفنا على بعض الملاحظات نذكر منها:
الملاحظ الأولى: أن المؤلف أورد في رسالته عبارة "مقدسة" بأن على الجزائر شعبا وحكومة أن ترد الاعتبار لمالك بن نبي أو كما قال هو لعقل النهضة فيها ولرائد المقاومة الفكرية، والحقيقة أن مهنا الحبيل عالج من خلال الظاهرة القرآنية عدة قضايا تتعلق بالتراث وأزمة العالم الإسلامي، مركزا على الأسئلة التي كان يطرحها مالك بن نبي و التي جعلت منه شخصا مُسْتَهْدَفًا ومُحَاصَرًا من كل الجوانب، لا لشيء إلا لأنه كان يدعو للخروج من الصندوق المغلق في فكر النهضة، بدءًا من المستشرق ماسينيون، وهنا نجد مهنا الحبيل منتصرا لمالك بن نبي ومنصفا له بخصوص المسألة اليهودية، فمالك بن نبي يؤمن بأن الاختلاف لا يؤدي إلى خلاف، وقد خصَّ بالذكر جمعية العلماء المسلمين ورئيسها عبد الحمد بن باديس بمكانة مرموقة رغم انتقاده لها، نلاحظ أن مهنا الحبيل في كل نقطة أو فكرة يقف عليها نقرأ فيه روح الناقد الذي يتحكم في الفكرة وله القدرة العقلية على تحليل الأفكار بشكل منطقي، فنجده تارة يمدح وتارة أخرى ينتقد، حيث وصف مالك بن نبي بالإنسان المتمرة، حتى لو قلنا أن مالك بن نبي انتقد الحركة الوطنية فهذا لا يعدو تمردا عليها، حتى بالنسبة للصراع الذي كان قائما داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وانقسام العلماء لم يكن لمالك بن نبي يدٌ فيها رغم أن الصراع كان يدور حول الطرقية، وكان لمالك بن نبي موقف منها، سعى بعض خصومه إقحامه فيها
وفي نفس الوقت نجده يشيد بجهود مالك بن نبي، إذ يقول في الصفحة رقم 31 أن مالك بن نبي مجاهد مفكر ويصفه بالنحّات، فمالك بن نبي - كما يقول هو- نحت الصخر لإخراج أبناء شعبه من القهر الفرنسي في إطار ما سمّاه بالقابلية للاستعمار، حيث ظل قلمه يخترق القبة الحديدية للعهد الكولونيالي الفكري، وقد تمكن مالك بن نبي عن طريق الظاهرة القرآنية أن ينتصر للإسلام وكتاب الله ومسار النبوة، وهنا قد يحتار القارئ إن كان مهنا الحبيل مع أو ضد؟، لا شك طبعا أنه كلما قرأنا كلمة حضارة إلا وكان مالك بن نبي الأول في قائمة المفكرين العرب الذين ناقشوا ونظّروا للمشكلة الحضارية والقليل من المفكرين من وضعوا نظرية أو معادلة للبناء الحضاري (الحضارة = إنسان + تراب+ وقت) .
الملاحظة الثانية: هي أن صاحب الكتاب استعمل ألفاظا أكثر من مرة، وهذا للتأكيد وليس تكرارا، مثل مفهوم "الجنوبيين"، وهذا أمر عادي بحكم الصراع الذي كان ولا يزال قائما بين الشمال والجنون في كل جوانبه العسكرية، السياسية والاقتصادية، أي بين الشمال الصناعي والجنوب الفلاحي، وبين الشمال المتطور أو المتحضر والجنوب المتخلف الذي ما يزال يعيش في مرحلة ما قبل الحضارة، يلاحظ كذلك أن مهنا الحبيل أراد أن يدخل قضية في قضية، كما نقرأه في الصفحة 51 وذكره فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، وهنا نلاحظ أن صاحب الكتاب خرج عن الظاهرة القرآنية، وابتعد عنها كثيرا، فقضية فرحات عباس تحتاج إلى كتاب مستقل، أم أن المؤلف كما جاء في الفقرة الثانية من الصفحة رقم 52 أراد أن يثير مشكلة قد تعيد فتح ملفات كثيرة ربما قادة الثورة متحفظين عليها خاصة الذين لا زالوا على قيد الحياة (الصّامتون) رغم أقليتهم، أما الذين غادروا الحياة فقد أخذوا علبتهم السوداء معهم، ربما طهارة الرجل (مالك بن نبي) ومصداقيته في وضع التاريخ تحت المجهر جعلته ورفاقه وبخاصة محمود ين الساعي منبوذا، وقد رحل مالك بن نبي كما جاء على لسان المؤلف غريبا طريدا لا عزاء له إلا بعض تلاميذه وهو ما أشار إليه مالك بن نبي نفسه في مذكراته "العفن".
الملاحظة الثالثة: في الصفحة 55 نقرأ بعض الانتقادات الموجهة لمالك بن نبي قد تثير ضجة وقد تخدم خصومه، لكن لا يمكن الوقوف ضدها وهذا من حق الناقد أن يبدي موقفه من مسالة ما، ربما المؤلف لم يفهم مالك بن نبي وليس هو وحده الذي لم يفهم مالك بن نبي، ربما نحن أيضا لم نفهم هذا الرجل في بعض القضايا التي يطرحها حول البناء الحضاري والتغيير والنهضة والثقافة والتخلف والقابلية للاستعمار، فقد اعترف مالك بن نبي في مذكراته العفن الصفحة 69 أنه يعي الخطورة الكبيرة لأفكاره، إذ كان يُجاهر بها في كل مكان وكان يحدث بها اصدقاءه وكانوا لا يشاطرونه آراءه ماعدا صالح بن ساعي، الذي اعترف بأفكاره، أما قوله في الصفحة 57 بأن العبارة التي قالها مالك بن نبي في نقده للطرقية بأنها عنيفة، فهذا تعبير أو وصف مبالغ فيه، فأفكار مالك بن نبي ومواقفه نابعة من مفكر واعٍ، يريد إصلاح وضع أمته، كما أن تفكيره غير نابع من نزعة فردانية، فهو يطرح مشكلات العالم الإسلامي كله وتخلفه دون تحيزٍ لبلد دون آخر، خاصة بالنسبة للطرقيين الغير معتدلين الذين أثبتوا ميولهم لخدمة المستعمر وكانت لهم قابلية للاستعمار، هذه القاعدة التي أسس عليها ين نبي مشروعه النهضوي الحضاري وعُرِفَ بها
الملاحظة الرابعة: فمالك بن نبي يتحدث عن ذلك الإنسان المتخلف حضاريا، أو كما سمّاه الشيخ سعيد النورسي بـ: "البدوي" الذي لم ير الحضارة بعد، أي الرجل الجنوبي الذي ما زال يرعى الجِمال والغنم، (أنظر رسائل النورسي "محاكمات عقلية صفحة 186)، أشار فيها النورسي إلى شطحات الصوفية المبنية على أوهام واهية ناشئة من سوء الفهم وفقر الاستعداد، لدليل على إصابة العقل البشري بسكتة دماغية وهذا ما كان مالك بن نبي يحاربه (الجهل والتخلف) وقد وصفهم سعيد النورسي بأصحاب وحدة الشهود وقد يعبر عنهم مجازا بوحدة الوجود، وهي مسلك باطل لقسم من الفلاسفة القدماء، (الصفحة 193 من المقصد الأول دلائل على صنع الجليل للنورسي) وهي فعلا روح سلبية على حد قول مالك بن نبي، كونها دلالة على الانحراف الديني، لأنهم مزجوا الألوهية بالمادة، علما أن التصوف الطقوسي لم يتوقف عند بعض الصوفية بل استمر بعد سقوط الدولة العثمانية إلى الأن.
الملاحظة الخامسة: قضايا أخرى تطرق إليها مهنا الحبيل في الصفحة 68 وهي تحتاج إلى قراءة مستقلة كونها في غاية الأهمية والخطورة، إذ تتعلق بالتيار الوهابي، فمالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي طرح قضية التخلف وما أصاب الأمة من شذوذ فكري سواء تعلق الأمر بالوهابية أو تيار آخر، ويمكن القول مهنا الحبيل هذه المرة يشير إلى أن مالك بن نبي كان بعيدا عن التدقيق الفكري والعلمي، لأن مشاعره كانت منفعلة ويجب أن يُعَاد فرز أفكاره حتى يعاد بعث مشروعه الملهم في أفكار النهضة وتأسيسها عبر الظاهرة القرآنية، ومهنا الحبيل هنا يبرر موقفه في نقده مالك بن نبي بالقول: "إن مهمة النقد هذه هي ردّ اعتبار له" والسؤال : كيف رد الاعتبار له وبعض الانتقادات تسيء له وتجهض مسيرة فكرية كرّس لها الرجل حياته كلها، مهما كان الحال، لا يمكن وصف مالك بن نبي بالمتمرد، وحبذا لو استعمل المؤلف عبارة ثوري بدلا من متمرد، أن متمرد لها معاني أخرى وهي الخروج عن الصف واللا انضباط، لأن مالك بن نبي عاش مرحلة قاسية جدا، جعلت منه رجلا ثائرا على الكفر والاستعمار الذي مارس كل اشكال القمع للشعوب، وحارب الإلحاد وواجه حركة التبشير، لم يغفل مهنا الحبيل أن يتحدث عن السيرة الذاتية لمالك بن نبي وعلاقته بماسينيون، ونجده هنا قد أقحم طرفا ثالثا هو إدوارد سعيد، ربما للرد على سؤال مالك بن نبي ( هل خاطب الله الكون؟ وهل اعتنى به؟ (ص 91)، ونحن بدورنا نتساءل: هل كان هذا سؤال مالك بن نبي؟ ونحن ندرك أن عقل مالك بن نبي يوزن ذهبا كما يقال.
خلاصة: خارج الكتاب يقول مهنا الحبيل وهو يرسم صورة للمفكر العربي في المهجر أنه كثيرا ما يجد المفكر العربي في المهجر نفسه عالقاُ بين الانغلاق عن الغرب أو الذوبان فيه، إذ يرى الحبيل أن هذه الثنائية ليست مجرد قضية اجتماعية بل هي امتداد لتراجع الخطاب الفكري وسيطرة التفكير الحزبي من جهة ولمحاولات الدمج الثقافي القسري التي تُمارس على المهاجرين في الغرب من جهة أخرى، لذلك ينتقد الحبيل محاولة البعض لاستنساخ تجربة "دار الأرقم" وجماعة المسلمين الدعوية في تأطير العلاقة مع الآخر، ويرى أن هذا الاستنساخ مسؤول عن تشكيل مجتمعات معزولة عن بعضها البعض، يقول الحبيل إنه ينطلق فيها للعالم الحديث، ليس من منظور التبشير الديني ولا المشاركة العقائدية مطلقاً، وإنما عبر قاعدة المشاركة التأسيسية لمصالح الإنسان وقيمه الجمعية، بعد فشل اتجاهات الحداثة وما بعدها، وللجبيل مؤلفات في هذا الجانب نذكر منها كتاب " جدل ثالث" يدور حول إشكالية الحداثة ووصولها لمرحلة تسيّد الإنسان الاله، وكتاب آخر بعنوان : "في سبيل التنوير" يرى فيه يرى الحبيل في مفهوم المشترك الإنساني بصيص نور للعقل العربي في المهجر، كما أطلق مهنا الحبيل عبر المركز الكندي للاستشارات الفكرية الذي أسسه في تورونتو منصة حوارية ثقافية في اتجاهين رئيسيين، يساهمان في دعم القيم الأساسية للشعب والدولة الكندية والموزاييك التعددي، وتعزيز مكانة كندا في العالم، وخاصة أقاليم الشرق، كمقترح لجهود سلام في صراعات الوطن العربي، والشرق، لتحقيق بيئة سلام، أو حوار يدفع لفض النزاعات والحروب الأهلية، أو الصراعات السياسية الدموية الداخلية.
***
قراءة علجية عيش بتصرف