ثقافة صحية
محمد الربيعي: الشيخوخة بعد الخمسين

لطالما اعتبرت الشيخوخة مسارا طبيعيا لا فكاك منه، لكن دراسة علمية حديثة تفتح نافذة جديدة لفهم هذه الرحلة البيولوجية، مؤكدة ان الخمسين ليست مجرد محطة عمرية، بل نقطة تحول تتسارع عندها وتيرة التدهور الخلوي. المفاجئ ان الاوعية الدموية، وخصوصا الشريان الابهر، ليست مجرد انابيب ناقلة للحياة، بل قد تكون ايضا طرقا سريعة تنقل اشارات الشيخوخة الى سائر انحاء الجسد.
الشيخوخة اكثر من مجرد رقم
السنوات على التقويم تحكي قصة واحدة، لكن الجسد قد يروي قصة مختلفة. فالعمر البيولوجي — الذي تحدده الجينات ونمط الحياة والبيئة — قد يتقدم او يتاخر عن العمر الزمني. هذا التباين يعني ان شخصين في العمر نفسه قد يعيشان في حالتين بيولوجيتين متباينتين جذريا.
العلامات الخفية على مستوى الخلية
الباحثون يحددون خمسة مؤشرات رئيسية ترسم ملامح التقدم في العمر:
1. اضطراب الجينوم: الطفرات والتلف في المادة الوراثية.
2. تقصر التيلوميرات: تلك الاغطية الواقية على اطراف الكروموسومات.
3. ضعف الميتوكوندريا: تراجع كفاءة “محطات الطاقة” في الخلية.
4. اختلال ادارة البروتينات: تراكم البروتينات المعيبة او غير المطوية.
5. التهاب مزمن منخفض الدرجة: وقود صامت لكثير من امراض الشيخوخة.
حين تدق ساعة الخمسين
الدراسة اظهرت ان الانسجة، ابتداء من هذا العمر، تدخل في مرحلة تغير بنيوي ووظيفي سريع، لكن ليس كل الاعضاء تتقدم بالوتيرة نفسها. الاوعية الدموية، وخاصة الابهر، بدت وكانها تسبق بقية الاجهزة في سباق العمر.
بروتينات تحمل رسائل الشيخوخة
التجارب على الفئران كشفت ان بروتينات مفرَزة من الشريان الابهر قادرة على احداث علامات الشيخوخة في انسجة سليمة. وكان الاوعية اصبحت رسلا غير مرغوبة، تبعث اشارات الشيخوخة عبر مجرى الدم الى الكبد والكلى وحتى الدماغ.
ماذا يعني ذلك للطب؟
اذا صح هذا المسار، فقد نكون امام فرصة ذهبية في الطب الوقائي:
1. القلب والشرايين: تحسين مرونة وصحة الاوعية قد يؤخر تصلب الشرايين.
2. العقل والذاكرة: خفض الالتهابات الوعائية قد يحمي الدماغ من التدهور المعرفي.
3. الايض والسكر: صحة الاوعية قد تترجم الى تنظيم افضل لمستويات الغلوكوز.
افاق علاجية مستقبلية
المستقبل قد يحمل:
1. ادوية تستهدف البروتينات المسببة للشيخوخة.
2. تدخلات جينية لاصلاح الخلل في انتاج هذه البروتينات.
3. تعزيز انماط الحياة الصحية — غذاء متوازن، نشاط بدني منتظم، بيئة نظيفة — كخط دفاع اول.
اخيرا، الشيخوخة ليست قدرا واحدا، بل مسارات متعددة، تتقاطع عند لحظة الخمسين وما بعدها. وربما، اذا ما استثمر البحث العلمي في هذا الاتجاه، يصبح بالامكان ان نضيف الى اعمارنا سنوات “حية” ذات جودة، لا مجرد ارقام. عندها، سيغدو السؤال: هل سنستطيع ان نتفاوض مع الزمن، ام ان الزمن سيظل صاحب الكلمة الاخيرة؟
***
ا. د. محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار دولي
.......................
لمزيد من المعلومات عن الشيخوخة راجع كتابنا: هل يمكن للانسان ان يعيش مئتي عام؟ محمد الربيعي. 2025. لندن للطباعة والنشر.