قضايا

علي الخطيب: الفلسفة تكتب معنى الفرح بالمتحف الكبير

مصر تبتسم من جديد..

في صباح يوم السبت، الأول من نوفمبر 2025، اليوم الذي بدا كأنه فجر جديد لروح مصر، احتشد المصريون عند أطراف محافظة "الجيزة"، لا ليزوروا مبنى جديدا فحسب، بل ليحتفلوا بأنفسهم وبقدرتهم على استحضار التاريخ من عمق الزمن. كان افتتاح المتحف المصري الكبير حدثا يتجاوز الحجر والزخرفة إلى الإنسان نفسه، إذ بدا وكأنه لحظة وعي جماعي تعيد تعريف معنى الانتماء. فالمصريون لم يأتوا ليشاهدوا الآثار، بل ليشهدوا أنفسهم، وليقولوا للعالم إن الحضارة التي صنعت التاريخ لا تزال قادرة على أن تبتسم من جديد.

ومن هذه اللحظة المضيئة انبثقت البهجة بوصفها فعلا وجوديا أكثر من كونها إحساسا عابرا. فحين يقف المصري أمام تمثال صنعته يد أجداده لا يرى الماضي شيئا مضى، بل حقيقة ما زالت تسكن الحاضر. كأنه يقول في صمت مهيب: "ها أنا أشارك في كتابة التاريخ من جديد." وهنا تتجلى الفلسفة كما وصفها "هيدجر" بوصفها وعي الإنسان بوجوده في العالم. تلك الوقفة أمام أثر خالد هي لحظة انكشاف للمعنى، إذ يصبح الفرح نوعا من الإدراك بأن الإنسان كائن صانع للزمن لا محكوم به.

ومن هذا الإدراك يتولد جسر بين الماضي والحاضر؛ فالمتحف لم يكن مجرد افتتاح معماري، بل لقاء بين المصري وتاريخه الممتد آلاف السنين. وكما قال "سارتر" إن الإنسان ليس ما هو بل ما يمكن أن يكونه، بدا هذا اليوم درسا فلسفيا في الإمكان. فالمصريون أدركوا أن التاريخ ليس نصا جامدا، بل مشروعا للحياة يمكن استعادته وتجديده. وحين تتفتح القاعات وتلمع الكنوز الملوكية في ضوء النهار، يشعر الزائر أن الحجر نفسه يتنفس، وأن الزمن القديم يمد يده إلى الحاضر في مصالحة صامتة بين الإنسان وأصله. وإن الفرح هنا ليس بالمشهد وحده، بل بالمعنى الذي يوقظه في الوجدان.

ومن هذا الوعي بالزمن ينبثق بعد آخر للفرح، هو بعده الإنساني العميق. فالابتسامات التي غمرت الوجوه في ذلك اليوم لم تكن مجرد طقس احتفالي، بل كانت فعلا فطريا صادقا خرج من طيبة متجذرة في وجدان المصريين. لقد بدا المشهد وكأنه تأكيد على أن الفرح لا يحتاج إلى تكلّف، لأن أصالته تنبع من الشعور بالمشاركة. وكأن المتحف لم يُبن ليُزار فحسب، بل ليُعاش كرمز للعدالة الثقافية التي تحدث عنها "رولز"؛ فكل فرد شعر أنه جزء من الإنجاز، لا مجرد شاهد عليه، وهكذا تحوّل الفرح إلى فعل انتماء حقيقي، وتجسيد لقدرة المصري على تجاوز الصعاب بالحياة نفسها. ومن هذا الشعور الجماعي تولدت رؤية أعمق للفرح، إذ لم يعد مجرد احتفاء بالماضي، بل وعدًا بالمستقبل.

ومن هذا الإحساس الجمعي الذي كشف عن طيبة المصريين وقدرتهم على تجاوز الصعاب، تولدت رؤية أعمق للفرح، إذ لم تعد البهجة مجرد احتفاء بالماضي، بل وعدا بالمستقبل. ولأن الفرح لا يقف عند لحظة منتهية، امتدت البهجة إلى الغد، وكأن المصريين بضحكاتهم ودهشتهم قالوا إن الحضارة ليست ماضيا يُستعاد، بل مشروعا يُستكمل. لقد تحولت لحظة الافتتاح إلى تمرين على الأمل، فالمتحف لم يكن نهاية لإنجاز معماري، بل بداية لرحلة جديدة في التعليم والبحث والإبداع. وهنا يطل المعنى الذي تحدث عنه "كارل يونغ" في مفهوم "التضامن الرمزي": الذي ينص على أن الإنسان يشعر بأن فرحته الفردية جزء من فرح جمعي أوسع، وأن الفرح حين يُعاش جماعيا يتحول إلى طاقة قادرة على تشكيل المستقبل. وهكذا يصبح الفرح ذاته فعلا حضاريا؛ فهو لا يكتفي بالتعبير عن السرور، بل يفتح أفقا للتجدد، ويدعو إلى مشاركة الوعي لا مجرد المشاركة في الحدث.

ولم يكن التعبير عن الفرح مقتصرا على الشوارع والساحات؛ فقد امتد إلى "الفضاء الرقمي"، حيث غيّر آلاف المصريين صورهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ووضعوا صور المتحف أو رموز الحضارة الفرعونية تعبيرا عن فخر واعتزاز وامتنان. كان ذلك الفعل البسيط أشبه بإعلان جماعي أن الفرح لا يُقال بالكلمات وحدها، بل يُمارس بالرمز والمشاركة. لقد كانت لحظة رقمية لكنها إنسانية بعمق، إذ امتزجت فيها التقنية بالوجدان، والعاطفة بالوعي، والفعل بالشعور.

وهكذا يتبين لي أن فرحة المصريين بالمتحف لم تكن حدثا ثقافيا فقط، بل "ظاهرة فلسفية" بالمعنى الأعمق للكلمة. فهي لم تعبّر عن لحظة انفعال جماهيري، بل عن "يقظة وجودية جماعية" تذكر الإنسان أن الفرح لا ينبع من امتلاك الأشياء، بل من إدراك ذاته وقدرته على أن يمنح للحياة معنى؛ فالحجارة تُبنى ثم تُنسى، أما الوعي فيظل شاهدا على الإنسان، وعلى قدرته الدائمة على أن ينهض من جديد.

والفلسفة، في هذه اللحظة المصرية النادرة، لم تكن "فكرة أكاديمية"، بل "روحا تسري في الحياة اليومية". فحين يبتسم المصري أمام المتحف، يعلن دون أن يدري أن الفرح أيضا فعل تفكير، وأن الحضارة ليست مجرد ذاكرة، بل وعد بالمستقبل.

ولعل ما يجعل هذه الفرحة مختلفة هو أنها جمعت بين الفكر والعاطفة، بين الجمال والمعنى، بين الزمان والإنسان. لقد عادت مصر لتبتسم من جديد، لا لأن حجرا أزيح أو بابا فُتح، بل لأن روحها القديمة نهضت في شكل حديث لتقول للعالم: "ما زلنا هنا، نصنع الفرح ونفكر فيه."

***

بقلم أ. د. علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب –جامعة المنيا- مصر

في المثقف اليوم