أقلام فكرية
آية مصدق: الليبرالية وسؤال الأخلاق

مقدمة: قامت الليبرالية الأوربية على أنقاض الكنيسة فرفعت شعار الحرية وعتقت الفرد من صكوك الغفران ومنحته الأولية ليقتحم الفكر الليبرالي الساحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فكيف نشأت الليبرالية وماهي مبادئها؟ وهل تؤسس لأرضية أخلاقية؟.
مفهوم الليبرالية:
قبل أن نخوض غمار البحث في الفكر الليبرالي وجب علينا ضبط مفهوم الليبرالية الذي يعتبر زئبقيًا ينفلت من دائرة التعريف، حيث اختلفت في تحديده المعاجم والموسوعات ذلك نظرا لتطور والالتباس حول نشأته إلا أن أكثر التعريفات شيوعا أن الليبرالية ترجع في الأصل إلى لفظ اللاتيني "ليبرالس" ويُقصد به الشخص الحر. وقد مثل هذا اللفظ الأكثر تداولاً منذ نهاية القرن 17 أما مع نهاية القرن التاسع عشر ظهر لفظ الليبرالية محملاً بخلفية فكرية اقتصادية وسياسية وقد عرف الطيب بوعزة الليبرالية في قوله "الليبرالية هي فلسفات اقتصادية وسياسية ترتكز على أولوية الفرد بوصفه كائنًا حر" ويعرفها المؤرخ مورس فلامون بأنها "مذهب الحرية" وبهذا المعنى نخلص إلى أن الليبرالية مـذهب فكري ينـادي بالحريـة الكاملـة في مختلف ميـادين الحيـاة.
وجدير بالذكر أن الليبرالية كلفظ اصطلاحي ظهرت بعد ظهورها التاريخي حيث تبلورت أفكارها في أول حزب ليبرالي وهو حزب الكورتيس الاسباني.
وإذا ما نظرنا في شهادة ميلاد الليبرالية سنجد أنها برزت في عصر التنوير خلال القرن السابع عشر كحركة سياسية رافضة لسائد من امتياز وراثي والحكم بحق الاهي وقد جاءت حصيلة جهود عدد من المفكرين والفلاسفة أمثال ستواريت ميل وموتسكيو وجون لوك الذي أكد على الحق الطبيعي لإنسان في الحياة والحرية والتملك.
مبادئها:
من أهم المبادئ التي قامت عليها الليبرالية والتي تعتبر القاسم المشترك بين مختلف تياراتها هي الحرية و من معانيها؛ حرية الفرد الذي تعتبره النواة الأولى المكونة للمجتمعات حيث أن لكل فرد الحق في فعل ما يريد شريطة أن لا يضر هذا غيره وفق القولة الشائعة "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك"
وقد أكد جون لوك على الحق الطبيعي للفرد في الحياة والحرية ويذهب جون لوك في تعريفه للحرية "الحرية هي ألا يتعرض المرء للتقييد والعنف من الآخرين"
أي أن حرية الفرد لا تتحقق في إطار تقيدي أو عنف يهدد وجودها وقد تجسدت الحقوق الطبيعية والحريات في وثيقة اعلان حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية في 1789وقد تأثر الاعلان بفكر التنوير والحقوق الطبيعية التي قال بها مفكرون أمثال جون لوك، فولتير، مونتيسكيو ويقوم الأساس الفكري للحرية على مفهوم الفردية، إذ يبنى لوك النظرية الذرية التي استعارها من حقل الفيزياء لتؤكد على فكرة مفادها بما أن الذرة هي أساس الكون فالفرد هو أساس المجتمع و يجب المحافظة على حقوقه والسعي خلف حريته واستقلاليته وما إن يمتلك الفرد هذه الحرية بإمكانها حينها تحقيق مصلحته واذا ما حقق كل فرد مصلحته تتحقق المصلحة العامة.
فالليبرالية بهذا المعنى تعيد للانسان الفرد حقوقه المنهوبة من قبل الكنسية و الأباطرة والاقطاعين وتجعل منه القيمة الأساسية والمركزية في الوجود المجتمعي وتنادي الحرية في وجهها الاقتصادي بحق الفرد في تملك وسائل الإنتاج والتعاملات الاقتصادية إذ تؤيد الليبرالية اقتصاد عدم التدخل أو الاقتصاد الحر بمعنى عدم تـدخل الدولـة في النشـاط الاقتصادي وترك السوق ينظم نفسه بنفسه وسعي كـل فـرد لتحقيـق مصـلحته الشخصية من خلال امتلاكه لوسائل الإنتاج وقد لخص شـعار "دعـه يعمـل، دعـه يمر" الرسمالية الليبرالية الذي نظر لها آدم سميث وقد جاء في كتابه ثروة الأمم " لكل فرد الحرية الكاملة في السعي إلى تحقيق مصلحته بطريقته الخاصة"
أما في المجال السياسي تتجلى الحرية في التعددية والمشاركة في الحياة السياسة من خلال حق التصويت وحرية اختيار الرئيس وممثلي الشعب والمعارضة السياسية فبتالي يصبح للمواطنين بغض النظر عن عقائدهم واختلافتهم فرصا سياسية متساوية كما أكد ستوارات ميل على حرية الفكر والاعتقاد وأن ليس من حق الحكومات إخراس صوت الفرد ويقول في هذا
"إنْ كانت البشرية كلها ما عدا فرد واحد مجمعة على رأي ما، فلا يسوغ لها ذلك إسكات ذلك الفرد"
كما لا يمكننا المرور دون ذكر أهمية العقل لدى الليبرالين ونقصد به الاتجاه العقلاني أو العقلانية والتي يحكم فيها الأفراد على الأمور استناد إلى العقل فتقصي بذلك الشعور أو العاطفة وترفض التسليم بما جاءت به الأديان فهي لا تعترف إلا بالمحسوسات وتنأى عن الماورئيات التي تختص بها الأديان فيمكن القول إذا أن العقلانية طريقة تفكير علمية تجريبية لا تعترف بلاهوت وتؤمن فقط بالحقيقة والعلم فهي بذلك تحرير العقل بما تسميه "أفيون" الماورئيات والخرافات اللاهوتية
وبكل ما أسلفنا القول نلحظ أن الحرية ليس مبدأ بل ركيزة أساسية يقوم عليها صرح الليبرالية في مختلف المجالات وبالتي يمكننا الجزم بأن الليبرالية لم تعد مجرد نظام مجتمعي من بين الأنظمة الأخرى بل أصبحت النظام الوحيد والأنجع والأفضل فالنظام الليبرالي هو إشارة لنهاية التاريخ كما يعبر عنها فوكياما إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان وهذا الانبهار باللبرالية لم تتأثر به أوروبا وحدها بل كذلك المشرق العربي لحظة الاحتكاك بين الاسلام وأوربا المعاصرة في ظل الاصطدام العسكري في القرن 19مع حملة نابليون وهزيمة ايسلي في المغرب والحمالات الاستكشافية التي قام بها طلاب الجامعات في أوروبا ليطرح المثقف العربي السؤال الأهم "كيف تأخرنا وتقدموا؟".
وفي بحثه للإجابة عن هذا السؤال وجد أن الأيديولوجية الليبرالية هي الطاغية على المناخ الفكري الأوروبي يقول عبد الله العروي في هذا:
"يجب أن لا ننسى أن الليبرالية كانت الهواء الذي يستنشقه كل من كان واعيا بحقوقه الأوروبية"
ليشكل رواد الفكر النهضوي العربي أمثال الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي بداية دخول الليبرالية إلى الواقع العربي الا أننا لا نجد في أدبياتهم إعلانًا صريحًا باعتناق مذهب الليبرالية، لكنهم انتقوا منها بعض الأفكار وأبرزها الحرية. ولم يكتفي رواد النهضة باستعارة مبادئ الفكر الليبرالي مثل الحرية والمساواة من أوروبا بل حاولوا تأصيلها في التربة العربية الإسلامية من خلال تأويل النص القرآني.
الليبرالية وسؤال الأخلاق:
من المعلوم أن لكل أيديولوجية أوجه قصور فإذا ما نظرنا للوجه الثاني من العملة سنجد أن الليبرالية ليست أبدع مما كان أو ما سيكون فهي ليست الأيديولوجية الوحيدة التي أكدت على الحرية فكثير من الدينات والفلسفات والأنظمة دعت إلى الحرية وبالتالي لا يمكن اختزال الحرية في مذهب واحد أو فلسفة واحدة كما أن الحرية لطالما مثلت أفقا تترقبه الإنسانية وتأمله كما أن القول بنهاية التاريخ لا يعني شيء سوى تعطل الفكر وموت الابداع ، إضافة إلى المساوة التي دعت إليها الليبرالية والتي أعدمت منذ أن تم إعلان الملكية فخلقت الطبقية ونمت العبودية من جديد في مجتمع الملكية والأرستقراطية، وهي عبودية الطبقة الغير مالكة لوسائل الإنتاج لطبقة المالكة ويقول روسو في هذا المعنى: "دائماً ما تكون القوانين مفيدةً؛ لأولئك المالكين، وتضرُ بأولئك الذين لا يملكون شيئاً"
وقد ظهرت النظرية الماركسية نسبة إلى ماركس الذي يمثل الفرد عنده في المنظومة الرأسمالية القائمة على الأسس الليبرالية مجرد شيء فمنطق الربح أصبح يحكم العلاقات الاجتماعية وقيمة السلع هي التي تحدد مركز الأفراد في المجتمع كما وجه ماركس النقد للملكية الخاصة التي تدعو إليها الليبرالية فهي تساهم في تشضي المجتمع الواحد إلى طبقات مختلفة بعضها يملك وسائل انتاج والآخر لا يملك غير ساعده وعندئذ تصبح الطبقة المالكة مستغلة ويحدث الصراع بين المُستغِلين والُستغٓلين حيث يسيطرُ الرأسماليون على الفائضِ، الذي أنتجتهُ الأيدي العاملة، وهكذا تحّول الرأسمالية، العُمالَ إلى سلع، وتطمس إنسانيتهم
وبالتالي تجعل الرأسمالية الأغنياء أكثر غنًا والفقراء أكثر فقرًا ولا يمكن حينها الحديث عن عدالة لاجتماعية وتوزيع العادل لثروات نتيجة غياب الدور الفعال لدولة وهو ما يؤدي إلى تفاقم الطبقية وسخط الفقراء على الأوضاع الاجتماعية وبروز طبقة البروليتاريا وقد حذرت الاشتراكية الماركسية من تغول الرأسمالية حيث انتقد ماركس استغلال الرأسمالين لطبقة العاملة وتراكم الثروة في يد الأقلية وهو ما يعبر عنه في قوله "إن تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر. "
فدعا إلى النظام الاشتراكي كنظام بديل للرأسمالية الليبرالية ويهدف النظام الاشتراكي لتملك الاجتماعي لوسائل الإنتاج و توزيع الأرباح بتساوي بين الأفراد مما ينتج عنه إلغاء الطبقية إذ تمثل المصلحة العامة لدى الاشتراكية هي مصلحة الفرد المنصهر داخل بوتقة المجتمع. كما أن التيار الليبرالي لم يول المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القـول بأنـه كـان يعـاني مـن اللامبـالاة الأخلاقيـة، لأن نسب الأخلاق إلى الليبرالية أمر فيه نظر فمن المعلوم أن الخلق مجموع من القيم والقواعد الواجب الالتزام بها من قبل الفرد على مستوى سلوكه و علاقته بالآخرين وبما أننا نتحدث عن قواعد فإننا نقف بلا شك أمام حلم التحرر
ومن هنا يجوز لنا القول أن الليبرالية بكونها فلسفة اقتصادية نفعية تفتقر إلى أرضية أخلاقية على المستوى النظري وكذلك التطبيقي إذ لا شيء يعلو على المنفعة الفردية فكيف إذا يمكن لمنظري الليبرالية أن يتفادوا هذا النقص
قدم موريس فلامون في كتابه تاريخ الليبرالية ما أسماه بالاخلاق العملية ويرى أنها ثلاث تتمثل أساسًا في المعاملات الاقتصادية بين الأفراد كاحترام العقود والمسؤولية وسياسة التقشف وكانت هذه محاولة فلامون البحث عن ما يمكن قوله في الجانب الأخلاقي لليبرالية و امتدت هذه المحاولة على صفحة ونصف
وهو ما يظهر جليًا أن حضور الأخلاق في التيار الليبرالي محتشم و يعد يكون هامشيًا أما بالنسبة لجيريمي بنتام فقد حاول تأسيس نظرية أخلاقية كاملة لليبرالية إلا أنه وقق في فخ النفعية مجددا حيث قام بقياس الأخلاق التي من المفترض أن تكون قيمًا مثلى بالكم فأصبحت أخلاق تجارية تقاس بالمال. ثم إنه لو كان لليبرالية وجه أخلاقي لماذا يحاول الليبراليون التاكيد على وجوده إلى هذه الدرجة قد يعترضنا قائلا فيقول إن عدم اضرار الفرد بحرية غيره والمساوة بين القانون هي في حد ذاته تجليات أخلاقية وربما في هذا شيء من الوجاهة لكن على مستوى نظري أما على المستوى الواقعي التطبيقي فالأفراد الذي يملكون وسائل الإنتاج ورؤوس الأموال يستغلون الأفراد الذين يعملون تحت امرتهم زد على ذلك أنهم لا يحترمون حرياتهم و يعاملونهم معاملة الآلة التي تنتج لهم مزيد من الأرباح كما يمكن لنا في نفينا للبعد الأخلاقي لليبرالية ذكر حادثة فرنسية بشعة قامت على أساس العقلانية والحرية والعلمانية وتعتبر جميعها مبادئ الليبرالية ونقصد هنا مذبحة فيندي عام 1793بفرنسا عقب الثورة الفرنسية فقد قابلت الحكومة العلمانية الجديدة تمرد الفلاحين من الأوضاع الاقتصادية والكاثوليك بالقمع الشديد إذ طبقت عليهم حكومة التنوير سياسات وحشية تم على إثرها اعدام آلاف الأسرى من بينهم الاطفال والنساء والشيوخ وحرق بيوتهم وارضيهم
وانطلاقًا من هذه الحادثة التاريخية التي وقعت بمقربة زمنية لإعلان حقوق الإنسان و الاعتراف بمبادئ الليبرالية قد نصاحب الصواب إذا ما قلنا أن الليبرالية لا تعترف بالاخلاق و أنها قد تقاتل باسم الحرية والعقلانية معارضيها بأبشع الطرق كل ذلك في سبيل تحقيق المنفعة والربح حتى لو كان الطريق إليهما يقتضي الدوس على الأخلاق.
أما بالنسبة للخطاب النهوضي فتحدر الإشارة إلى أن المثقف العربي رغم أنه سعى إلى الانتقاء من الليبرالية إلا أنه تعامل مع ما انتقه تعامل المسلمات فقد غابات الأدبيات التي تحلل الأطروحة الليبرالية وتفسرها وان ضعف التحليل والفهم الدقيق لليبرالية نشأ نتيجة معاينة الاطروحة الليبرالية في لحظة انبهار واندهاش أو بما يسمى بصدمة الحداثة إذ أن الفكر النهضوي العربي اقتبس منها بعض من مبادئها وحاول تأصيلها في الحضارة العربية الإسلامية ولا يمكن في كل حال اقتباس نموذج جاهر نشأ وفق معطيات تارخية وثقافية معينة لحضارة ما و تطبيقه على حضارة اخر. مختلفة تمامًا فنهضة المجتمع العربي لا تكون باستنساخ قوالب جاهزة بل بابتكار نموذج خاص مع مراعاة طبيعة وخصوصية هذا المجتمع.
خاتمة:
على الرغم من أن الليبرالية قد أثبتت نجاحاها على المستوى الإقتصادي وأعادت للفرد الأوروبي بعض من حريته التي فقدها في عصور أوروبا المظلمة إلا أنها تظل تعاني من مشكلة الأخلاق في تعاملها مع هذا الفرد معاملة الألة وبقواعد الرأسمالية المتوحشة ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تصور نظام عالمي دون أرضية أخلاقية لأن غياب هذه الأرضية سيسبب في تكون أموال طائلة لكن ملطخة بالدماء التي تسببها الحروب.
***
آية مصدق - باحثة