أقلام فكرية
غزلان زينون: الزمن.. مفارقة الإدراك والانفلات

الزمن جزء من كينونة الإنسان ومن صميمه، فنحن لا نتحرّك في الزمن، بل نصنع ذاكرتنا منه، ونشتقّ منه معنى لما كنّا وما نريد أن نكون، نعم إنه الزمن، لطالما شعرت أنه ليس ما نراه في عقارب الساعة أو حركة تعاقب الليل والنهار، بل ما نعيشه في عمقنا عندما ننتظر شيئًا بشغف، أو حين نفقد شيئًا فنشعر أن الوقت كان هشًّا، متفلّتًا.
حينما نبحث في أعمال كل من ديان بونومانو وألبرت تساو وويليام فرايدمان من بين آخرين، كيف أن الدماغ يُشفّر الزمن، وكيف أن خلايا دقيقة تترتب بداخلنا لتسجّل اللحظات وتضع لها علامة...إلخ، أو حين نقرأ أن الزمن الحقيقي لا يُقاس بالساعات، بل يُعاش داخليًا كتيار شعوري متدفّق لا يمكن تقسيمه أو تثبيته رياضيًّا كما صاغه هنري برجسون، وأن الإنسان لا "يوجد" إلا من خلال الزمن، لأن الماضي يُشكّل ذاكرته، والمستقبل يُحرّك مقاصده، والحاضر هو لحظة اختيار تؤسّس فعل الوجود، مما يجعله يحمل بداخله توترًا دائمًا بين ما كان وما سيكون، مما يمنحه القدرة على التفكير، الإبداع، والتأويل، كما أوضح مارتن هايدغر... يخطر ببالي سؤال مزعج: لماذا رغم كل هذا الإدراك الداخلي، نستهين بالزمن في حياتنا؟
أنا لا أتحدّث هنا كعالمة أعصاب أو كفيلسوفة، بل كإنسانة تمرّ بي الأيام وكأنني أطاردها وهي تفرّ، أنا أعلم أن الزمن مكوّن منّا كما هو مكوّن لنا، لكنه يتسرّب من بين أفعالنا، من بين تأجيلاتنا، من بين ساعات نضيعها في عبارات "فيما بعد أو لاحقا..". إننا نعرف الزمن علميًا، لكن لا نعامله كما نعرفه.
إن كل لحظة تمرّ هي فرصة لا تتكرّر لبناء معنى، لكننا نختار في معظم الوقت أن نعيش في الماضي أو الهروب إلى مستقبل مجهول، وفي المقابل تذوب في روتيننا اليومي "الآن" تلك اللحظة التي يدعونا هايدغر إليها لنفهمها كمساحة للاختيار، فلا نسمع صوتها فتنفلت منا أو بالأحرى نحن من نغفل عنها.
هذه الملزمة ليست بحثًا، بل تذكيرٌ لنفسي قبل أن أدرك كل لحظة كنبض في الوعي، أنا أعرف الزمن جيدًا، أعرف كيف يمرّ، وكيف يُخلّد، وكيف يُنسى، قرأت عنه كثيرا، كيف ترصده أدمغتنا، وحاولت أن أكتشف كيف تُشفّره الخلايا لتكوّن ذاكرتنا، لكنني وسط كل هذا الإدراك أمارسه كما لو أنه لا يعنيني، أحيانا أهدره وكأنه ليس مني ولا أُصنَع منه، أمارسه وكأنه خارج الذات، فقط يُقاس، يُؤجَّل، يُهدر، لماذا؟
هذه المفارقة ليست معرفية فحسب… بل وجودية. إنها تلك الفجوة بين من يعرف قيمة الشيء، ثم لا يستثمره، وكأن المعرفة ليست كافية لصون ما نعرفه.
نحن نعلم أن اللحظة فريدة، ومع ذلك نطردها من انتباهنا بحركة أصبع على شاشة، أو بتأجيلٍ متكرّر لأشياء نُحبّها. وكأن الزمن ملكنا حينًا، وعبءٌ علينا في كثير من الأحيان.
ربما حين نُدرك أن الزمن ليس في الساعة بل في الذات… وأن اللحظة التي نحسن الإنصات لها تغدو أوسع من عمرٍ يُعاش بالتشتّت، نستطيع تقليص الهوة بين المعرفة التي تُقيم الزمن في جوف الذات، والسلوك الذي يُبدّده في ضجيج اليوم، حيث ينشأ سؤال: لماذا هذا العبث؟
الزمن ليس ما نقيسه بل ما نحسّه، هذه الفكرة ظلّت تراودني كلما وجدتُ نفسي في لحظة انتظار طويلة أو في لحظة فرح قصيرة تُمرّ كطيف. إدراكي للزمن لا يرتبط بعدد الدقائق بل بمدى غِنى اللحظة وسكونها أو توترها.
يخبرنا علم الأعصاب أن الدماغ يُعيد ترتيب الأحداث لا وفق ساعات العالم الخارجي بل وفق شعوره بها، فهناك خلايا تُشفّر لحظة بلحظة، ترتّب لنا الذكريات كما لو كانت فصولًا في كتاب نكتبه دون أن نعي ذلك. وهذا يجعلني أتساءل: إن كان جسدي يعرف الزمن بهذه الدقة، فلماذا لا أعرفه أنا؟ ولماذا أحيانًا يبدو لي الوقت بلا طعم ولا شكل؟
أشعر أن الزمن يتكثّف حين أكون منصتة، ويتفكك حين أكون مشوشة، وكل لحظة أعيها بصدق تصبح أعمق من عشرات الساعات التي أمضيتها في فعلٍ لا أذكر منه شيئًا، وأنني أُدرك الزمن أكثر مما أعيشه، كأن في داخلي صوتًا يعرف تمامًا أن اللحظة ثمينة، لكنني أُطفئه كلما انشغلت بما لا يستحق. فنحن لا نهدر الوقت عن جهل بل عن غفلةٍ مقصودة، تلك التي نمارسها حين نؤجل حلمًا، أو نغلق نافذةً كان يمكن أن تُطلّ بنا على شيء أجمل.
أعلم جيدًا، كما يعلم منكم كثير، أن الزمن لا يعود، وربما المستقبل لن يأتي، لكننا نستسهل التكرار، نُعيد اليوم كما لو أنه نسخة من أمس، ونسمح للساعات أن تتدفّق دون مقاومة، ما الذي يجعلنا نمارس هذا الانفلات رغم أننا نحمل في داخلنا قدرة عجيبة على التنظيم والتأمل؟
ربما لأننا اعتدنا على أن اللحظة صارت صندوقًا نملأه بالمهام، لا فسحةً نفهم فيها أنفسنا، فصرنا نركض خلف الزمن في الخارج، ونترك زمننا الداخلي فارغًا، وكأننا نستكثر على أنفسنا حق الإنصات لنبضها، فكيف نعيد علاقتنا بالزمن؟
أظن أن الأمر لا يحتاج إلى نظريات معقّدة، بل إلى لحظة صدق... تلك اللحظة التي نقف فيها وقول: "نحن هنا، الآن"، أن نُقرّ بأن الزمن ليس خارجنا، بل هو نحن حين ننتبه، حين نختار، حين نقرر..،
حين أتأمل علاقتنا بالزمن، أشعر وكأننا نعيش على هامشه لا فيه، نتعامل معه كعامل خارجي يُلزمنا بالمواعيد والمهام، ليس كجزء حميم من تكويننا الداخلي يُنبتُ فينا الإدراك، وما يُشكّلُ ذاكرتنا وهويتنا.
لكي نعيد علاقتنا به، لا يكفي أن نُنظّم وقتنا، لكن يجب أن نُغيّر كيفية التفكير في الوقت، لذلك أُحاول بين فينة والأخرى أن أصنع لنفسي طقسًا صغيرًا، لربما يعيد لي هذه العلاقة: كوب قهوة في صمت، دفتر أكتب فيه أفكاري، لحظة تأمل لا تُقاس بالهدف بل بالحضور، حيث أُراقب الكون وهو يتحرّك من حولي لأشعر أنني فيه، فأُفكّر في مسألة أننا لا نحتاج لفهم الزمن بل نحتاج لأن نُعيد إليه مكانته كرفيق يُشكّل الحياة لحظة بلحظة، فبين الإدراك والانفلات نعيش ونُدرك تفاصيلًا لا نُحسن صيانتها، ونفقد لحظاتٍ كنّا نستطيع أن نُقيم فيها ذكرى أو فكرة أو بصمة صدق.
الزمن ليس عدوّنا ولا لغزًا، إنه مرآة تختبر مدى حضورنا في أنفسنا، وكلما حاولنا الإمساك به أدركنا أنه لا يُحسَن القبض عليه باليد، بل يُعاش بالوعي والإدراك، وربما حين نكفّ عن اللهاث خلف الوقت، ونبدأ الإنصات له، سنكتشف أن الزمن لا يتفلّت بل نحن من كُنّا نغيّبُه.
***
بقلم الطالبة الباحثة: غزلان زينون