أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الاسس الميتافيزيقية للفلسفة البوذية

في كتابه (دماغ البوذي المتنور: البوذية الطبيعية) يستطلع المؤلف أوين فلاناغان Owen Flanagan(1) ما اذا كان بالإمكان التوفيق بين التقاليد الروحية الكبرى و رؤية عالمية علمية شاملة. في رفضها لما فوق الطبيعة، يعرض الكاتب نسخة للبوذية تبقى هامة أخلاقيا وثرية وجوديا في حفاظها على التوافق الكامل مع العلم والفلسفة المعاصرين. في ما يأتي من مقتطفات، يفحص الكاتب كيف تختلف البوذية بشكل حاد عن التقاليد الايمانية عبر إنكارها وجود إله خالق وروح خالدة. اعتماداً على مفاهيم ميتافيزيقية مثل نشأة معتمدة و anatman (لا روح) هو يجادل بان هذه المعتقدات ليست فقط أوجدت معنى داخلي ضمن البوذية بل اصبح لها صدى يتردد في الفهم العلمي الحديث للوعي والكون.

نشأت البوذية عام 500 ق.م عندما أعلن سيدهارتا او بوذا خطابه الافتتاحي في احدى الحدائق العامة قرب ضواحي بنارس في الهند (حاليا تسمى فاراناس). اعتمادا على الكيفية التي يفهم بها المرء vedic او التقليد الروحي الهندي في ذلك الوقت، كانت البوذية اما قطيعة كاملة مع تلك التقاليد او تطوير لها (2). البوذية ترفض نظاما طبقيا على اسس أخلاقية.

الشيء الأكثر اثارة للاهتمام لاولئك الذين يعتقدون ان الدين يتطلب الايمان بالالوهية، هو ان البوذية ترفض كل من فكرة الاله الخالق والروح الثابتة غير القابلة للتدمير،على اسس منطقية وتجريبية.

البوذية التقليدية مليئة بالأشباح والارواح والشياطين والالهة وعوالم للجنة والجحيم واعادة ميلاد طبقا لقوانين الكارما التي تحكم الكون. وحتى لو كان العلمانيون المعاصرون في الغرب يرون البوذية منسجمة مع فلسفة التنوير، فان العديد من البوذيين الاسيويين خاصة التيبيت، لايرون ذلك.

البوذية ترفض التصور الهندي المقدس القديم السائد للبراهمان كمحرك اساسي،وهي ترفض ايضا فكرة ان كل فرد ينطوي في داخله على روح غير متغيرة. وفي ما عدى هذا، جرى الاحتفاظ بالعديد من الافكار الهندية المألوفة وتطويرها في البوذية – رغم ان ذلك تم فقط مؤخرا وفي أماكن معينة. هذا الميراث يتضمن الأهمية العميقة للتمييز بين المظهر والواقع، فكرة مكافأة السلوك الفاضل (كارما)، وفكرة المعاناة (دوكها) تحدّد مأزق الانسان (سامسارا) وان التحرير ممكن (نيرفانا) من خلال التنوير (panna) والفضيلة بالاضافة الى أفكار التناسخ او إعادة المولد.

نركز الان على اثنتين من العقائد الميتافيزيقية التي ترفضها البوذية: الله الخالق وفكرة الروح. اولاً، البوذية تفهم بعمق المشاكل المألوفة في حجة التصميم الكونية المتعلقة بوجود الله. هذه الحجج تطرح سؤالا عن أصل الخالق او المصمم. لكي نقول كان هناك محركا اساسيا دائما او خالق ذاتي ومستمر ذاتيا ذلك يعني القبول بتراجع لا نهائي للسبب infinite regress. اذا كان الله دائما هناك ويجب ان يكون هناك، عندئذ فان الله نفسه يتراجع الى ما لانهاية.

عندما يستمع الدالاي لاما لقصة الانفجار العظيم بغ بانغ قبل 14 مليار سنة، هو يقول حسنا"لكنه بالطبع ليس بغ بانغ الاول". هذا الجواب ليس رفضا لنظرية الانفجار العظيم. يرى الدايلاما ان نظرية الانفجار العظيم ذاتها غير كافية لأنها ليست سببا عميقا كافيا. بعض العلماء ذاتهم الان يتساءلون عما اذا كانت هناك قصة أفضل لا تتطلب انفجارا أصليا منفردا بل هو اقل من أصل هذا الكون بحيث يتضمن ثقبا مفتوحا من كون مواز آخر، مع هذه الأكوان الاخرى او أسلافها – ربما رفاق في اكوان متعددة شاسعة ولا متناهية – كونها بلا بداية.

الكونيون أحيانا يقولون لا يستطيع المرء ان يسأل ماذا كان هناك قبل حدوث الانفجار العظيم او كيف وصل الانفجار الى هناك. هم يقصدون ان "الزمن" كما تفهم الفيزياء يبدأ (او يصبح مفهوما مفيدا) مع البغ بانغ. لكن المعنى الكامن خلف هذا السؤال يظل قائما.

وهكذا فان علماء كون آخرون سيعترفون بشرعية السؤال ويقولون انهم ليس لديهم أدنى فكرة حول كيفية الاجابة عليه. البوذية تشعر بالارتياح من التراجع اللامتناهي في الأسباب الطبيعية. في الحقيقة، الفكرة تنسجم جيدا مع الفكرة الميتافيزيقية للنشأة المعتمدة، والتي بموجبها كل ما يحدث يعتمد على حدوث أشياء اخرى(4).

ان رفض عقيدة atman، الفكرة بان الناس حائزون على روح ثابتة لا تتحطم، تأتي من خطين من التفكير:

1-هناك فكرة النشأة المعتمدة التي ذكرناها توا. كل شيء تدفّق وكل تغيير يتوضح بتغيير سابق. المبدأ كوني ولهذا ينطبق على الذهن.

2- جلب التجربة او الظاهرة: سيرى المرء ان ما يسمى "الذات" او الروح يشبه العديد من الاشياء الطبيعية الاخرى، تشترك بعلاقة معينة من الاستمرارية والترابط – وعيي أشبه بالتيار منه الى جبل ايفرست (والذي هو ايضا جزء من التدفق، لكنه مرئي بدرجة اقل). الكلام التقليدي يسمح لنا بإعادة تحديد هوية كل شخص بواسطة اسمه كما لو انه بالضبط ذاته بمرور الزمن. لكن الهوية ليست من قبيل اما كل شيء او لا شيء. الشخصية هي نوع من التطور. جبال الهملايا بطيئة جدا في التطور (أحد الاجوبة على سؤال المدة التي يستغرقها الوصول الى التنوير النهائي هي المدة التي يستغرقها تآكل سلسلة جبال اكبر من جبال الهملايا بـ 84000 مرة اذا تم لمسها مرة واحدة يوميا بقطعة قماش ناعمة).

الناس أسرع تطورا من جبال الهملايا العادية بينما ذبابة الفاكهة تتطور بسرعة أكبر. كل نوع من الاشياء يتطور في الكون، الذي هو الأم الأبدية لكل نضج، له فترة زمنية يمكن خلالها القول انه ما هو عليه – سلسلة جبال، شخص، ذبابة – وبعد ذلك يتوقف عن امتلاك ما يكفي من الكمال ليُقال انه نفس الشيء. وفي نقطة التحول هذه، نحن نقول عن الشيء، الحدث، او العملية ذهبت، او ماتت.

هذه هي عقيدة اناتما، او اللاروح. لا شيء دائم، حتى الاشياء التي تبدو هكذا هي ليست كذلك. اذا جرى فهم الرؤية بشكل صحيح فهي ليست عدمية. في الحقيقة، في الغرب هناك رؤية مشابهة جدا جرى الايمان بها على نطاق واسع بدءا من لوك وحتى الوقت الحاضر. وانها تنسجم جدا مع العقل العلمي المعاصر. كذلك،عقيدة اناتمان تناسب الافكار البوذية بان الافراد يمكنهم في الحقيقة تحويل أنفسهم، ويصبحون متنورين، وهكذا. اذا كانت طبيعة المرء،كما هي،ثابتة لا تتغير، من الصعب رؤية كيف يكون التحول الذاتي ممكنا.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) اوين فلاناغان Owen Flanagan استاذ فخري في الفلسفة وعلم الأعصاب في جامعة ديوك.  مؤلف عدة كتب من بينها كتاب دماغ البوذي المتنور (The Boddhisattva’s Brain) نُشرعام 2011 والذي اقتُبست منه هذه المقالة.

(2) أقدم حكمة او فلسفة هندوسية vedas يعود تاريخها الى عام 1500 ق.م ولا تتضمن الاوبانيشاد او البهاجافاد جيتا. الاوبانشاد تعود تاريخيا الى القرن السادس قبل الميلاد. اما البهاجافاد جيتا فقد جاءت ضمن ملحمة ماهابهارتا التي كُتبت من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن الرابع الميلادي لكن البهاجافاد جيتا يُعتقد انها نص متأخر ربما تم تأليفه بالكامل في العصر الحديث. وعلى أية حال، القسم الاخير هو نصوص رئيسية لما يُعرف بالهندوسية. الهندوس لايسمون دينهم بالهندوسية (رغم انهم ربما يسمون انفسهم هندوس كنوع من الصفة الاثنية). الاسم نشأ من رغبة المستوطنين البريطانيين لتسمية الهنود بممارسات روحية او دينية. لذا فان البوذية لم تأت من الهندوسية لأنه مهما كان اسم الهندوسية فهي جاءت بعد البوذية. ومما جعل الامور اسوأ، ان الكلمة الانجليزية (هندو) هي بالتأكيد ترتكز على سوء تلفظ يرتبط بأهمية نهر السند (اندوس). ولكي يصفوا ممارساتهم الروحية، الهندوس احيانا يستعملون الكلمة دارشانا والتي تُترجم الى "فلسفة". عادة هم يشيرون لطريقتهم بسنتانا دراهما، الطريقة الأبدية للحقيقة. لا وجود لبابا هندوسي. انها ليست ايمان عقائدي بمذهب ارثودكسي معين. لا وجود ايضا لبابا بوذي. البوذية هي ايضا ليست ايمان عقائدي بمذهب ارثودكسي منفرد. قيل ان كل تقليد روحي فيه بعض الالتزامات التي تشكل الشروط الدنيا لتكون عضوا او داعيا، وهكذا. المنهج التقليدي للتبت (cutting through appearances) يقول، "ان تعريف المناصر للمبادئ البوذية هو: شخص يزعم ان الأختام(المبادئ) الاربعة تشهد بان العقيدة بوذية. الاختام الاربعة هي:1- كل الظواهر المركبة هي غير دائمية 2- كل الاشياء الملوثة بائسة 3- كل الظواهر هي بلا روح 4- النيرفانا هي السلام.

(3) براهمان هو اسم المصدر النهائي المستمر ذاتيا لكل الخلق. لكنه ليس شخصا. كذلك، العديد من الهندوس يتصورون معبدهم المعقد للالهة، حتى أعلى الالهة مثل براهما (خالق الارض وليس كل شيء)،فيشنو vishnu (حامي المحبة) و شيفاShiva (حامي شرس) كمظاهر لإله واحد فقط وهو براهما.  تلميحات سبينوزا.

(4) الدايلاما (2005،92-93) يكتب: "حتى مع كل هذه النظريات العلمية المعقدة عن أصل الكون، انا تُركت مع اسئلة مصيرية: ماذا وُجد قبل البغ بانغ؟ من أين جاء البغ بانغ؟ ما سببه؟ لماذا تطور كوكبنا لدعم الحياة؟ ماهي العلاقة بين الكون والكائنات التي تطورت فيه؟

العلماء قد يتجاهلون هذه الاسئلة باعتبارها بلامعنى او هم ربما يعترفون بأهميتها لكن ينكرون انها تعود لميدان التحقيق العلمي. مع ذلك، كلا الاتجاهين سوف يكون لهما عواقب على الاعتراف بحدود محددة لمعرفتنا العلمية بأصل الكون. في البوذية نُظر الى الكون باعتباره لامتناهيا وبلابداية،والمؤلف يعرب عن سعادته بالمغامرة في التأمل بما وراء البغ بانغ والحالات المحتملة قبل ذلك.

 

في المثقف اليوم