قراءات نقدية
عدنان عويّد: دراسة نقديّة لقصة (إليك أمضي) للقاصة الليبية منى صنع الله
"منى صنع الله" أديبة وقاصة يمنيّة، من مواليد 1993، تجيد اللغات العربيّة والألمانيّة والانكليزيّة، تحمل ماجستير في اللغة العربيّة، وبكالوريوس في الشريعة الإسلاميّة، خريجة جامعة (توبنغن) في ألمانيا، تعمقت في دراسة الفلسفة للاكتشاف فقط كما تقول. لديها العديد من الشهادات المتعلقة بالتدريب وتنمية المهارات العمليّة والعقليّة والابداعيّة للفرد، وتمارس العديد من المهارات والهوايات الفرديّة ومنها ركوب الخيل.
البنية الحكائيّة أو السرديّة للقصة
إن الحب الحقيقي ليس نزوةً عابرةً في قلوب وعقول المحبين، إذا كان صادقا في دلالاته الإنسانيّة، فالحب الصادق يتجذر في القلب والعقل والروح، ويتحول إلى موقف حياة عند المحبين، قد تَحُولُ بعضُ المعوقات في تحقيق نتائجه المرجوة منه، أو حتى في استمراريته إن كان بفعل معوقات موضوعيّة أو ذاتيّة، ولكنه يبقى مستعراً في قلوب المحبين كجمرة تحت الرماد، يمكن أن تعود للاشتعال والتوهج عندما تسنح لها الظروف، أو أن هناك استعداداً عند المحبين لإعادة اشتعال هذه الجمرة كي يشع نورها ودفؤها من جديد.
في قصة (ميرو) "إليك أمضي)، نقف أمام فتاة (أمل) أحبت بصدق حتى تغلغل الحب شغاف قلبها، واتخذ من هذه الشغاف منزلاً له. بيد أن هناك ظروفاً ما استطاعت أن توقف مسيرة هذا الحب لم تعلن عنه القاصة، لكنه توقف وقررت الحبيبة أن لا تترك حبيبها فحسب بل تترك البلد الذي هو فيه وتهاجر إلى بلد آخر.
حملت " أمل" حقيبتها واتجهت إلى محطة القطار، لم تكن الطريق المؤدية إلى المحطة طويلة من حيث المكان.. لكن خطوات "أمل" في الزمان كانت أثقل من أن تقاس بالمسافة.. كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة.. وفي قلبها حديقة أكبر.. حقيبة صمت وحيرة.. وقرار.. لم يكتمل في عمق تفكيرها وعواطفها.. فها هو المساء يهبط ببطء كما تقول القاصة (منى)، وقد تلونت السماء بدرجات لون البنفسج المشبع بالحزن رغم بهجته، وكأنه قد أضفى الحزن على الدنيا كلها، وهي تستعد لوداع لا يُعرف كيف سيكون..
منذ أسابيع و"وأمل" تقاوم فكرة الرحيل.. المدينة لم تعد لها.. والأحلام التي ادخرتها على الرف تجمد عليها الغبار.. لم يبق لها سوى رسالة واحدة.. كتبتها له ولم ترسلها.. هنا يقف الحب بكل جبروته وقوته أمام قرار "أمل" بالرحيل، فمسيرة حبهما رغم ما اعترضها من ألم وجمود، إلا أن هناك خيطاً رفيعاً من نسيج قصة حبهما لم يزل يسيج عقلها وروحها، ويفرض عليها أن تخط له رسالة أخيرة مشبعة بالأمل تقول فيها له: (ما بيني وبينك مسافة لا تقاس، لكنها وحدها التي تدفعني إليك أمضي).
نعم رغم بُعْدِ المسافة الزمنيّة التي كسرها الجفاء بينها وبين حبيبها، إلا أن هناك في مسيرة حبهما ما بقي يدفعها إليه من جديد. وربما الذي دفعها للحيرة في أمر رحيلها هو ما تبقى من حبها له.. وهو الأمر ذاته الذي جعل حبيبها يلحق بها لمحطة القطار ويسلمها رسالته الأخيرة وقد دون فيها: (.. لا تمضي بعيداً فوجهتك عندي..). فتحت الرسالة القصيرة فكانت الجملة الوحيدة فيها تشبهه.. ورغم بساطتها إلا أنها أربكت قلبها وفتحت عينيها إليه.. فابتسم تلك الابتسامة التي وحدها كانت قادرة على سد كل الطرق.. وأشعرتها بأن المحطة لم تعد محطة.. وأن الرحيل لم يعد قراراً، وأن الطريق تغير فجأة من مدينة مجهولة إلى قلب تعرفه جيدا.
قال لها بهدوء المحب الصادق: (إن أردت الذهاب فلن أمنعك.. ولكن إن أردت البقاء.. فها أنا ذا.. إليك أمضي إن مضيت.. ومعك أبقى إن بقيت..).
ترددت لحظة.. ثم أغلقت يدها على الورقة الصغيرة ونهضت.. القطار أطلق صفارته.. الناس هرعوا.. إلا هي.. استدارت نحوه.. وقالت بصوت يشبه قراراً طال انتظاره.. (هذه المرة لن أمضي وحدي.. ).
ومعاً غادرا المحطة.
البنية السيمائيّة للعنوان:
(إليك أمضي). يحمل هذا العنوان حمولة عاطفيّة ووجدانيّة ليس لها حدود، فـ "أمل" رغم قرارها بالرحيل وترك حبيبها والمكان الذي يقيم فيه، والذي فرضه عليها شدّة ما لاقته في حبه من معاناة، إلا أن حبها الصادق له، ظل يحرك مكامن اللوعة في قبلها له، وبالتالي جعل رحيلها يتحول بفضل هذا الحب ولوعته من الخارج إلى الداخل.. أي أن تعود في قرارها لتحول وجهة الرحيل إليه من جديد، وتقول له عندما جاءها إلى المحطة بقلبه المشبع بحبها : (هذه المرة لن أمضي وحدي.. ).
البنية الفكرية للقصة:
تريد القاصة أن تقول بأن الحب ليس بطاقة عبور بين القلوب لحضور حفلة موسيقيّة أو فلم سينمائي مشوق تنتهي فاعليته بانتها الحفلة أو الفلم، بل هو بطاقة قُدّت من شغاف القلوب، وكُتبت حروفها بالألم والشوق والحنين واللهفة للقاء الحبيب والتواصل معه، وهي تذكرت سفر بين القلوب حُددت فيها مسارات أجسادنا وأرواحنا وقلوبنا، وسيجت هذه المسارات بأسلاك وقيود أحكم إغلاقها ولم يعد من السهولة الخروج منها.
البنية الفنية للقصة:
اللغة في القصة:
لقد اعتنت القاصة عناية بالغة باللغة وتركيب مفرداتها التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد في تركيب مفرداتها الكثير من المحسنات البديعيّة، والتورية، والانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء، هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي أيضاً.
لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاصة سليمة وفصيحة، وسهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصة، وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة الصياغة وتسلسل العبارات وتخير الألفاظ وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الذي استخدمت فيه هذه اللغة من قبل القاصة بقدرات تعبيريّة باهرة، وهذا يدل في الحقيقة على ثراء المفردات عندها وبالتالي امتلاكها قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاصة أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها، إضافة لعمق إحساسها.
الصورة في قصة (إليك أمضي):
يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام، وفي القص الأدبي بشكل خاص، من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني، كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.
لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاصة "منى صنع الله". وهي هنا تتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة، لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرتها على الغوص في أعماق شخوصها. حيث تقول:
(كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة.. وفي قلبها حديقة أكبر.. حقيبة صمت وحيرة.. وقرار.. لم يكتمل.). وفي قولها: (المساء يهبط ببطء.. يلون السماء بدرجات البنفسج.. وكأن الدنيا كلها تستعد لوداع لا يعرف لمن يكون..). أو في قولها: (ولكن شيئاً ما كان يسحبها إلى الخلف.. ذكرى وعد.. أو ربما قلب لم يتعلم بعد كيف ينسى) وفي قولها: (والأحلام التي ادخرتها على الرف تجمد عليها الغبار)... الخ.
لقد استطاعت القاصة أن تجعل من صورها التخيليّة داخل القصة أكثر حسيّة وجماليّة، حيث تميزت القصة بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاصة، التي استمدت هذه الصور عبر الحواس أولاً، وعبر التخيل والمجاز ثانياً، مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرتها التأثيريّة على المتلقي.
المكان والزمان في القصة:
يعتبر كل من المكان والزمان من العوامل المؤثرة في العمل السردي عموماً، حيث يمكن أن يكونا خلفيّةً للأحداث، أو يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. ويمكن للمكان أن يكون حقيقيًّا أو خياليًّا.. مغلقاً أو مفتوحا، ويمكن للزمان أن يكون ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا أو حتى هلاميّا، وقد يكون المكان معبراً في دلالاته عن طبيعة المأساة الواردة في القصة.
إن الزمان والمكان في قصة (إليك أمضي) لهما دلالاتهما العميقة. فإذا كان الزمان في القصة قد توقف ولم تعد "أمل" قادرة على تحديد أبعاده ومدى قدرته على التأثير فيها، وكل ما ذكر عن الزمان في القصة قولها (المساء يهبط ببطء.. يلون السماء بدرجات البنفسج.. وكأن الدنيا كلها تستعد لوداع لا يعرف لمن يكون..).. ففكرة الزمان ارتبطت هنا بفكرة الرحيل وقسوته لا أكثر.
أما المكان فله دلالاته العميقة رغم أنه مغلق أو محدود (محطة القطار)، إلا أنه يعبر عن قضيّة إنسانيّة عميقة في آلامها وعذابها وحيرتها وقلقها.. فالمكان (المحطة) يرهق العقل والروح والجسد معاً، خاصة إذا كان الرحيل قد فرض قسراً. ها هي "أمل" تعبر عن المكان بقولها الذي يختصر كل شيء في بنية القصة (لم تكن الطريق المؤدية إلى المحطة طويلة.. لكن خطوات (أمل) كانت أثقل من أن تقاس بالمسافة.. كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة.. وفي قلبها حديقة أكبر.. حقيبة صمت وحيرة.. وقرار.. لم يكتمل.
الرمز والايحاء في القصة:
لقد اعتمدت القاصة أسلوباً ممتعاً في تصوير الحدث، من خلال اتكائها على استخدام الرمز في تفرعاته الخصبة من إيحاء وإشارة وتلميح، حيث تقول: (كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة.. وفي قلبها حديقة أكبر.. حقيبة صمت وحيرة.. وقرار.. لم يكتمل...). وهذه إشارة إلى عمق مأساة الفراق والرحيل الذي يفرض على الإنسان فرضاً. أو في قولها: (يلون السماء بدرجات البنفسج.. وكأن الدنيا كلها تستعد لوداع لا يعرف لمن يكون..)، والبنفسج هنا رغم جماليته إلا أن طبعه حزين، والحزن الذي يعبر عنه هذا اللون في القصة هو الفراق والبعد وألمهما... الى آخره من رموز وإشارات أخرى يمكن للقارئ أن يتابعها في النص.
***
د. عدنان عويّد
.........................
إليك أمضي
منى صنع الله
لم تكن الطريق المؤدية إلى المحطة طويلة.. لكن خطوات (أمل) كانت أثقل من أن تقاس بالمسافة.. كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة.. وفي قلبها حديقة أكبر.. حقيبة صمت وحيرة.. وقرار.. لم يكتمل..
المساء يهبط ببطء.. يلون السماء بدرجات البنفسج..وكأن الدنيا كلها تستعد لوداع لا يعرف لمن يكون..
منذ أسابيع وهي تقاوم فكرة الرحيل.. المدينة لم تعد لها.. والأحلام التي ادخرتها على الرف تجمد عليها الغبار.. لم يبق لها سوى رسالة واحدة.. كتبتها له ولم ترسلها.. (ما بيني وبينك مسافة لا تقاس لكنها وحدها التي تدفعني إليك أمضي).
جلست في المحطة على مقعد خشبي تستمع إلى أصوات العابرين.. وصدى صفارات القطار.. كانت تعرف أن الرحلة ستأخذها إلى مدينة جديدة.. ولكن شيئاً ما كان يسحبها إلى الخلف..ذكرى وعد.. أو ربما قلب لم يتعلم بعد كيف ينسى..
وفجأة.. رأت ظلاً يقترب.. لم تكن بحاجة لرفع رأسها كي تعرفه.. خطوات تحفظها كما تحفظ قصائدها.
قال بصوت منخفض: (ما رلت تنوين الرحيل؟.).
لم تجبه..
كانت الكلمات ستنكسر لو تكلمت..
جلس بقربها.. ثم أخرج من معطفه ورقة صغيرة ووضعها في يدها..
- (كنت سأرسلها لك.. لكن خفت أن تصل متأخرة..).
فتحت الورقة.. كانت الجملة الوحيدة فيها تشبهه... بسيطة.. لكنها تربك القلب.. لا تمضي بعيداً فوجهتك عندي..
رفعت عينيها إليه.. فابتسم تلك الابتسامة التي وحدها كانت قادرة على سد كل الطرق.. شعرت بأن المحطة لم تعد محطة.. وأن الرحيل لم يعد قراراً، وأن الطريق تغير فجأة من مدينة مجهولة إلى قلب تعرفه جيدا.
وقف وقال بهدوء: (إن أردت الذهاب فلن أمنعك.. ولكن إن أردت البقاء.. فها أنا ذا.. إليك أمضي إن مضيت.. ومعك أبقى إن بقيت..
ترددت لحظة.. ثم أغلقت يدها على الورقة الصغيرة ونهضت.. القطار أطلق صفارته.. الناس هرعوا.. إلا هي..
استدارت نحوه.. وقالت بصوت يشبه قراراً طال انتظاره.. (هذه المرة لن أمضي وحدي..).
ومعاً غادرا المحطة.






