أقلام حرة
علي الطائي: إنسانٌ بلا حزنٍ يساوي لا إنسان
ليس الحزنُ ظِلًّا عابرًا في نهار الروح، ولا طيفًا يتسلّل إلى القلب كما تتسلّل نبرةُ ليلٍ واهنةٍ في آخر العمر؛ بل هو أحدُ الأركان التي بُني عليها الوجودُ الإنساني، كالماء في أطراف الأرض، والهواء في جوف الرئة، والنور في حدقة العين. إنسانٌ بلا حزنٍ، هو كائنٌ لم يعرف حرارة التجربة، ولم يمسّ جوهر الحياة في أكثر مواضعها كشفًا وإيلامًا وعمقًا. فالحزنُ ليس نقيضَ الحياة، بل أحد أسماء نضجها.
من لا يحزن، لا يعرفُ لذّة الشفاء. ومن لا ينكسر، لا يعرفُ معنى الوقوف. إن الحزنَ هو المدرسة التي لا يدخلها القلبُ إلا ليتعلّم: كيف يكون أقوى عندما يبدو أضعف، وكيف يرى أبعد حين تغشى العينَ غيمةٌ من الدموع. إننا لا نتطهّر بالفرح وحده، بل نتطهّر بالحزن أكثر، لأنه يهبنا صفاءً خالصًا لا يشبهه شيء؛ ينفض عن الروح زيفها، ويجعلها تقف عاريةً أمام حقيقتها الأولى.
كم من إنسانٍ خرج من رحِم الحزن كما تخرج السنبلة من ظلمة التراب؛ ناضجةً، ناصعة، ممتلئةً بحكمة الأرض وملحها ومطرها. وكم من روحٍ لم تعرف عمقَ ذاتها إلا حين انفتح فيها جرحٌ، صغيرٌ أو فادح، لكنه كان البابَ الوحيد إلى النور.
ليس الحزنُ دعوةً للانكسار، بل دعوةٌ لفهم الوجود. هو الوجهُ الذي نرى فيه هشاشتَنا، فنخجل من قسوةٍ صدرت عنّا، أو من حبٍّ ضيّعناه، أو من فرصةٍ أفلتت من يدٍ لم تُحسِن القبض عليها. إنه يذكّرنا بأننا بشر: لسنا آلاتٍ للضحك، ولا تماثيلَ للتماسك، بل كائناتٌ تُخطئ وتتعلم، تُحبّ وتُخذَل، تبني وتنهدم، ثم تعود لتبني من جديد.
إنسانٌ بلا حزنٍ، هو إنسانٌ بلا ذاكرة. بلا تلك اللحظات التي تكوّن صورَنا الداخلية، وتمنحنا القدرة على التعاطف، وعلى فهم آلام الآخرين. فالقسوةُ لا تولد من الحقد، بل من خواءٍ شعوري، من نفوسٍ لم تذُق طعم الخسارة، ولم تتأمل ملامحها في مرآة الليل.
وما الحزنُ إلا البلّور الذي تتشكّل فيه أعمقُ مشاعرنا. لولاه، لبقينا غبارًا عالقًا في هواءٍ ساكن، بلا وزنٍ ولا أثر. لكنّه يعيد صهرنا، يحوّلنا إلى معدنٍ قابلٍ للطرق، ثم يخرج منّا شكلًا جديدًا، أكثر رهافةً، وأكثر قدرةً على أن يرى غيره.
اليوم، في عالمٍ مزدحمٍ بالأقنعة، لم يعد الناس يخجلون من الفرح، بل يخجلون من الحزن. يضعونه خلف ظهورهم كما لو كان عيبًا، بينما هو شهادتهم على أنهم كانوا أحياء. أن يتألم الإنسان، يعني أنه ما زال قادرًا على الحبّ، على التعلّق، على الخسارة، على الانتظار، على الوقوف أمام ذاته دون زيف.
ولذلك…
إنسانٌ بلا حزنٍ يساوي لا إنسان
لأن الحزن هو الدليلُ الأخير على أن في داخلنا قلبًا ينبض، وروحًا تتفاعل، وذاتًا تتشكّل. هو توقيعُ الحياة على صفحاتنا الشخصية. هو أشبهُ بخيطٍ دقيقٍ في نسيجٍ معقّد، لكنّه الخيطُ الذي يمنح النسيجَ معناه.
إنه ليس عدوًّا ينبغي طرده، بل رفيقُ دربٍ ينبغي فهمه. فإن حضر، لا تُغلق البابَ في وجهه. دعه يجلس قليلًا؛ سيمنحك درسًا لا تمنحه آلافُ الكتب. وعندما يغادر، يغادرُ تاركًا وراءه روحًا أوسعَ من قبل، وقلبًا يحتمل الحياة كما هي: مُذهلةً حينًا، قاسيةً حينًا، لكنها دائمًا تستحق أن نعيشها.
فمن لا يحزن…
لا يعرف نفسه.
ومن لا يعرف نفسه…
لا يمكن أن يكون إنسانًا كاملًا.
***
بقلم: د. علي الطائي
13-12-2025






