أقلام فكرية
غالب المسعودي: الأصول والدوافع المولّدة للفعل الفلسفي

تُعد دراسة منشِئات الفعل الفلسفي (التفلسف) مسألة إيتيولوجية جوهرية، تبحث في العلل التي تحفز التفكير النقدي وتدفعه نحو البحث عن الحقيقة والمعنى. إن الإيتالوجيا، بوصفها علم العلل والأسباب، توفّر الإطار المنهجي اللازم لتفكيك عملية التفلسف، سواء من منظور الدوافع الوجودية الداخلية أو السياقات المعرفية الخارجية. وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل معمق للفعل الفلسفي، بالاعتماد على نموذج العلل الأرسطية ودوافع النشأة الكلاسيكية والوجودية والمعاصرة.
تحديد العلاقة بين العلة والفعل
قبل البدء بتحليل أسباب الفعل الفلسفي، يجب أولاً تحرير مفهوم "التفلسف" نفسه من المعاني السلبية التي لحقته تاريخياً، وإعادة الألق إليه. التفلسف في جوهره لا يعني العبث أو الترف العقلي، بل هو عملية معرفية إيجابية ومنهجية؛ فهو يعني استخدام العقل ليكون حكماً على ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وهو مرادف لحرية التعبير والبحث والإنتاج المعرفي، (وكالة عمون الإخبارية، د.ت.).
إن هذا الجهد لإعادة تعريف التفلسف وتصحيح معناه يمثل في حد ذاته علة فاعلة اجتماعية حديثة. وإذا كانت المفاهيم السلبية تعيق ممارسة التفكير النقدي، فإن محاربة هذا التحريف (وهي مهمة تقع على عاتق الفلاسفة والمفكرين) تصبح سبباً مساهماً في تحرير العلة الفاعلة الأصلية للفعل الفلسفي.
يُعرَف التفلسف أيضاً باعتباره تفكيراً نقدياً وإشكالياً بامتياز، تتشابك فيه المفارقات، ويعمل على بلورة الأسئلة ومجابهة الإحراجات باستخدام أدوات منطقية محكمة. هذه الطبيعة الإشكالية ليست سمة عارضة، بل هي "مِلاكه ولُحمته"، مما يؤكد أن التفلسف في علته الصورية الأولية هو نقد دائم للنسق النظري القائم، بغية تقديم فهم أشمل للواقعين النظري والعملي.
الإيتالوجيا ونظرية العلية في الفلسفة
تُعد الإيتالوجيا، كدراسة للعلل والأسباب، المنطلق الطبيعي لتحليل الفلسفة، إذ قيل عن الفلسفة منذ نشأتها إنها "البحث عن أصل الوجود" أو "العلة الأولى" (جريدة الصباح، د.ت.). إن هذا يقوم على مبدأ التلازم الضروري بين السبب والمسبب، أو العلة والمعلول، ويقتضي التمييز بين أنواع العلل (الحيدري، د.ت.).
في التقليد الفلسفي، هناك تمييز بين العلل القريبة والعلل البعيدة أو النهائية. الفلسفة تكرس نفسها للبحث عن العلة النهائية أو العلة الأولى للوجود. يتضح الفرق الإيتيولوجي بين الفلسفة والعلوم التجريبية في أن البحث العلمي يتناول "العرض" (المادة والصورة)، بينما البحث الفلسفي يتناول "الطول"، أي العلة الفاعلة والعلة الغائية. وبما أن البحث عن العلة الفاعلة والعلة الغائية هو بحث فلسفي برهاني وليس تجريبياً، فإنه لا يخضع لإثبات أو نفي العلم التجريبي (البراك، د.ت.).
إن الفعل الفلسفي نفسه يمثل نشاطاً إيتيولوجياً أعلى (ماكرو-إيتالوجيا)؛ فبما أن الفلسفة تبحث عن "العلة الأولى"، فإنها تسعى لتأسيس إطار علّي شامل يفسر الوجود بأكمله، بينما تكتفي العلوم الأخرى بتقديم علل قريبة وجزئية. إن طبيعة الفلسفة، التي تتعمق في البحث عن الفاعل والغاية، هي ما تجعل التفلسف إيتيولوجياً بالضرورة منذ بداية نشأته.
الإيتالوجيا الكلاسيكية والوجودية
تنبع أهم دوافع التفلسف من حالات الوعي البشري تجاه العالم والذات. وقد صاغ كارل ياسبرز هذه الدوافع في سياق "أدوات فعل التفلسف"، مؤكداً أن الأصل هو الينبوع الذي يتدفق منه الدافع (ياسبرز، د.ت.).
تُعد الدهشة العلة الفاعلة الأولى والأصل الأول للتفلسف. هي العملية الفكرية التي تربط الفيلسوف بالعالم الخارجي، وتُوصف بعلاقة الغرابة أو التعجب. لقد أكد أفلاطون أن الدهشة هي أصل الفلسفة، وتبعته في ذلك أرسطو الذي اعتبرها الدافع الحقيقي إلى التفلسف (الجذع المشترك، د.ت.). الدهشة تدفع العقل للبحث عن الحقيقة، ولكنها تجعل هذه الحقيقة هائمة، بمعنى أنها لا يمكن أن تكون مطلقة، بل هي مسألة خاضعة للمساءلة المستمرة.
الشك هو الأصل الثاني في سلسلة دوافع التفلسف، ويُعد الخطوة الأولى والضرورية لفحص الأفكار والمعتقدات بهدف الوصول إلى الحقيقة. الشك يمثل آلية نقدية تسبق البناء الفلسفي (الجذع المشترك، د.ت.).
الدهشة علة فاعلة "خفيفة"، والشك علة فاعلة "موجهة"، أما حالات الحدود فهي علة فاعلة قسرية. لا يمكن للبشر أن يعيشوا دائمًا في حالة دهشة مستمرة، لكنهم لا يستطيعون الهروب من حالات الحدود الوجودية. وبالتالي، فإن الوعي بالمأساة والإحساس بالرعب والعجز يمثل العلة الفاعلة الأكثر ثباتاً وضرورة لتوليد الأسئلة الفلسفية الأساسية. إن الإحساس بوجود الشر والقبح أو المأساة هو الدافع الفاعل الذي يدفع الفلسفة إلى أن تكون بحثاً عن الخير الأعم والمعنى.
العلل التاريخية في السياقات الثقافية
لقد ظهر التفلسف في التاريخ استجابة لعلل سياقية محددة؛ فظهور طاليس يمثل تحولاً إيتيولوجياً جذرياً، إذ حاول تفسير تعدد الظواهر الطبيعية بإرجاعها إلى أسباب وقوانين معينة، مبتعداً عن التفسير الأسطوري.
العصر الحديث
في العصر الحديث، تجد الفلسفة دوافع جديدة للتفلسف ناجمة عن التحديات العالمية. التساؤل الفلسفي المعاصر تحركه أزمات ناتجة عن التطرف في العقلانية، وهيمنة التكنولوجيا، والاستغلال التجاري (هنداوي، د.ت.).
الحل الفلسفي المُقترح لمواجهة هذه العلة الفاعلة المعاصرة، كما نادى به هايدجر، يكمن في رفض التكنولوجيا لصالح الحرية والعودة إلى تقدير الطبيعة كمصدر للتساؤل. وهذا يربط الإيتالوجيا الوجودية بالعلة الغائية الأخلاقية الحديثة، حيث يتحول البحث عن الخلاص الفردي إلى سعي للالتزام الطويل المدى بالمحافظة على البيئة وحمايتها كغاية جماعية.
خلاصة إيتيولوجية
إن التفلسف ليس فعلاً عارضاً، بل هو عملية علّية دائمة تحكمها سلسلة متكاملة من العلل المتعددة الأبعاد التي تضمن استمرارية البحث النقدي. يمكن رؤية التفلسف كمنظومة يتم فيها توفير العلة المادية والعلة الصورية بشكل مستمر، بينما تتناوب العلل الفاعلة بين الدافع الوجودي الداخلي والدوافع السياقية الخارجية.
إن هذا التفاعل يشكل دورة تصحيحية دائمة. عندما يفشل نظام أخلاقي أو علمي معين في تحقيق "الخير الأعم"، يظهر هذا الفشل على شكل أزمة أو عائق منهجي. هذه العلة الفاعلة تدفع الوعي الفلسفي للبحث عن غاية مُصَححة وإعادة تأسيس القيم. وبما أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الشعور بأن لحياته قيمة، فإن أي نقص أو فقدان في هذا الشعور هو علة فاعلة مؤلمة تدفعه نحو التفلسف لاستعادة المعنى.
التفلسف كضرورة ومقاومة مستمرة
إن الدور الغائي الأبدي للتفلسف، والمتمثل في البحث عن الحقيقة والمعنى، هو السبب النهائي الذي يضمن استمرارية الدوافع الفاعلة (الشك والدهشة)، محولاً إياها من مجرد فضول إلى التزام جوهري بمساءلة الوجود.
وبناءً على هذا التحليل الإيتيولوجي الشامل، يجب توجيه الأبحاث المستقبلية نحو تطبيق إطار العلل الأرسطي على الظواهر الفلسفية الناشئة، مثل فلسفة التقنية وتجاوز الإنسانية. هذا التطبيق يهدف إلى تحديد ما إذا كانت العلة الفاعلة لهذه الظواهر موجهة حقاً نحو "الخير الأعم" والتحرر، أم أنها محكومة بعلة مادية/فاعلة تكنولوجية تبتعد عن الغاية الإنسانية التي يجب أن يحققها التفلسف.
***
غالب المسعودي
............................
المراجع
البراك، الشيخ عبد الرحمن. (د.ت.). معنى العلة الغائية والعلة الفاعلة في كتب الفلسفة. [مادة منشورة]
الجزائري، د. علي. (د.ت.). الفرق بين الإبستمولوجيا والميثودولجيا. علوم إنسانية واجتماعية
الجذع المشترك. (د.ت.). دوافع التفلسف - الدهشة - الشك - العقلنة - الحقيقة. [مادة تعليمية/أكاديمية]
جريدة الصباح. (د.ت.). الفلسفة والسببيَّة. [مقالة صحفية]
الحيدري، السيد كمال. (د.ت.). مقدمات فلسفية مهمة في العلة والمعلول. [محاضرة/مادة منشورة]
هنداوي، مؤسسة. (د.ت.). كارل ياسبرز | آراء فلسفية في أزمة العصر. [مقال تحليلي]
وكالة عمون الإخبارية. (د.ت.). التفلسف | كتاب عمون. [مقال رأي/تحليلي]
ياسبرز، كارل. (د.ت.). درس أدوات فعل التفلسف. [مادة تعليمية/محاضرة]
نغش، د. إدريس. (د.ت.). الفرق بين فلسفة العلوم والإبستمولوجيا ونظرية المعرفة. [مقال أكاديمي]
جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية. (د.ت.). الفلسفة والتفكير النقدي. [مادة أكاديمية]
موقع مبتعث. (د.ت.). المناهج الفلسفية - المنهج الفلسفي. [مقال ويب]