أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: اطروحة نيتشة.. لماذا لا يجب ان نهتم بالحقيقة؟

في نهاية حياته، كتب هيرمن ميليفيل كتابا بعنوان الرجل الواثق: حفلة تنكرية. تدور أحداث الرواية على متن سفينة بخارية، وتتضمن مجموعة من الرسوم التوضيحية تتضمن محتالين، مخادعين، أغبياء. في عالم ميليفيل، ينقسم الناس الى ثلاثة أنواع: الواثقون بالمخادعين، المشككون، ذوي التعامل اللاشرعي. انت لا تحتاج لقراءة الرجل الواثق لمعرفة النهاية – السذج يأتون اخيرا. هم يتم مضغهم وبصقهم. ستتأكد ان أي مخدوع بارادته، سوف يكون فقير حالا.

الانسان يكذب طوال الوقت. أحدنا ربما كذب مؤخرا، معظم الناس يكذبون حوالي ثلاثين مرة في اليوم. الكذب أحد أهم الحيل لدينا للحصول على ميزة على الآخرين. وبهذا، فان الاتصالات الانسانية عادة تستلزم نوعا من سباق تسلح. الناس يحاولون خداعك، وانت سوف تطور وسائل لتحدّي خداعهم. الناس سوف يحاولون بيعك شيء ما، وانت سوف تتعلم الشك.

هذا قاد الفلاسفة والسايكولوجيون لصياغة فكرة "اليقضة المعرفية" epistemic vigilance". حجة اليقضة المعرفية تؤكد باننا نمتلك ترسانة من الأدوات الرقابية لتحديد وكشف الأكاذيب. في ورقة شهيرة حول الموضوع، جادل sperber بان "الناس لديهم آليات معرفية لليقضة الابستمية لمواجهة خطر تلقّي معلومات مضللة من الآخرين". نحن لدينا جهاز كشف الكذب.

حجة اليقضة المعرفية

هناك فرعان للحجة. الاول هو ان البالغين باستمرار يقيسون مدى الموثوقية بالاخرين. نحن نميل عموما للوثوق بمصداقية الاخرين واعتبار اكثرهم نزيهين. وبمرور الزمن، عندما يقول شخص ما قولا كذبا او يقوم بشيء خاطئ، نلجأ ليقضتنا المعرفية. نحن نقول، "اوكي، زيد بوضوح لا يعرف شيئا حول كرة القدم، لذا انا سوف لن أسأله مرة اخرى".

الملاحظة الثانية هي ان الاطفال يتعلمون في وقت مبكر جدا بمنْ يثقون او لا يثقون. السايكولوجي باسكال بوير لاحظ ان الاطفال الرضع "يبدون حساسين للفرق بين الخبراء والعاملين المبتدئين. لاحقا، الاطفال الصغار يستخدمون اشارات الكفاءة للحكم على مختلف أقوال الافراد، وعدم الوثوق باولئك الذين كانوا مخطئين في مواقف سابقة، او اولئك الذين يبدو مصممين على استغلال الآخرين".

الحجة لهذا السبب تؤكد ان الناس يولدون بمهارات معينة او آليات رقابية للبحث عن الحقيقة مقابل الزيف. لديهم يقضة معرفية.

خطأ منطقي

الفيلسوف جوزيف شيبير Joseph Shieber يرى ان شيئا خاطئا هنا. هو لا يعارض حقيقة اننا يقضين – الدليل يبدو يشير الى ذلك، لكنه يعارض تسمية هذا باليقضة المعرفية.

المشكلة هي ان الانسان أظهر مرة بعد اخرى انه خصيصا لا يجيد التمييز بين الحقيقة والكذب. وكما يذكر شيبير "رغم عدة عقود من البحث، الاستنتاج يُظهر ان الانسان فقير جدا في كشف الخداع". اذا كنا نمتلك جهازا داخليا لكشف الكذب، فهو غير دقيق، وفي أغلب الاحيان لا يعمل، وعادة يتشتت ذهنه بالأشياء الاخرى.

نحن ايضا لسنا جيدين بقول ما اذا كان شخص ما كفئاً. دراستان من عام 1996 الى 2005 اظهرتا كيف يستخدم الناس عوامل غير ابستمية لتقرير ما اذا كان شخص ما جيدا في مهنته. نحن نعتقد خطئا ان الشخص ذو الوجه الملائم هو كفء، او ان شخصا ما يمشي، يتحدث، ويبرز نفسه بطريقة معينة يمكن ان يكشف عن قدراته. في الحقيقة، لا أحد من هذه العوامل مسؤولة حقا عن الكفاءة او المصداقية.

اطروحة نيتشة (1)

اذاً، نحن تُركنا مع حقيقتين. نحن يقضين حول ما يقوله الناس، لكن يقضتنا لا ترتكز على أساس ادراكي. اذاً، أي نوع من اليقضة هي؟ شيبير صاغ تعبير "اطروحة نيتشة". هو يجادل ان "هدفنا في المحادثة ليس من حيث الاساس اكتساب معلومات موثوقة وانما الهدف هو "تجسيد ذاتي - ادارة انطباع الاخرين عنا والتحكم به". بكلمة اخرى، نحن نقبل او نرفض اقوالا مرتكزة على اهداف نفعية وليس على مصداقيتها. في كلمات نيتشة، نحن نقبل ونبحث عن الحقيقة فقط عندما تكون لها "نتائج سارة ومحافظة على الحياة".

وبالعكس، نحن كارهون"للحقائق المؤذية والمدمرة". نحن لا نمتلك يقضة ابستمية وانما يقضة ميكافيلية.

هناك ملاحظة هامة حول المجتمع الحديث الذي ربما يعطي مصداقية لأفكار شيبير: شعبية نظريات المؤامرة و هراء غرف الصدى(2).

 اذا كانت اليقضة المعرفية صحيحة، سنكون دائما مدققين للحقيقة وطاردين للمؤامرات طول الوقت. لكننا لسنا كذلك. عندما يلقي متحدث كاريزمي او مقنع بيانا، نحن نقبله في كثير من الاحيان بالارتكاز على خطوط ميكافيلية. انا سوف أقبله حين يحافظ على منزلتي الاجتماعية.

اطروحة شابير تعرض اسئلة كبيرة ليس فقط للفلسفة وانما ايضا للقانون: اذا لم يكن الناس يهتمون بالحقيقة، عندئذ كيف يمكن الوثوق بالشهادة في المحاكم؟ انها ايضا مسألة هامة يجب تذكّرها في تفاعلاتنا مع بعضنا البعض بالاضافة الى ما نقرأ، نسمع، نرى اونلاين. من الجيد ان نتذكر اننا سيئين جدا وايضا قليلي الاهتمام بالحقيقة. في أغلب الاحيان، نحن نهتم بالاشياء الاخرى غير المعرفية.

***

حاتم حميد محسن

............................

Big Think, November, 2023

الهوامش

(1) اطروحة نيتشة Nietzsche Thesis لا تشير الى اطروحة معينة لنيتشه معترف بها عالميا. انها تشير الى أهم الافكار والحجج المتناثرة التي وُجدت في جميع أعمال نيتشة الفلسفية.

(2) غرف الصدى تشير الى الافكار والآراء او المعلومات التي يتم تداولها باستمرار وتجسيدها ضمن نظام مغلق، مثل جماعة الاون لاين، حيث يتفاعل فيها فقط الافراد المتشابهين فكريا، بينما يتم استبعاد الرؤى المخالفة او تسقيطها. هذا يخلق موقفا يتم فيه تسليط الضوء على أفراد معينين وتعزيزعقائدهم القائمة، بما يقود الى تشويه الواقع او المبالغة بفهمه.غرف الصدى تخلق صدى بنفس الطريقة التي يحدث بها الصدى في الكنائس او الكهوف. هي دائما تكون واسعة ومغلقة وتنطوي على مساحات فارغة مسقفة ومحاطة بجدران ومواد تعكس الموجات الصوتية جيدا.

 

في المثقف اليوم