أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: في الفلسفة السياسية.. ماذا يعني حق الدولة في الوجود؟

بتاريخ 24 فبراير 2025 نشرت مجلة ايون Aeon وهي مجلة رقمية تهتم بقضايا الفكر والفلسفة والثقافة، بحثا هاما للبروفيسور اندرو مارش(1) حول حق الدولة في الوجود، سنتطرق بالتفصيل لهذا المقال.

ان الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يتردد صداها في صفحات الرأي وفي غرف لجان الكونغرس الامريكية. هذه الطلبات برزت باستمرار في سياق اسرائيل وتأطير حربها مع الفلسطينيين والقوى الاقليمية الاخرى. القوة البلاغية للسؤال واضحة. اذا كانت اسرائيل تواجه تحديا لـ "حقها في الوجود" عندئذ فان انتقاد الاعمال العسكرية لإسرائيل يجب ان يبقى صامتا ومقيدا. هذا التأطير يتضمن ايضا فرضية ان الدول الموجودة لديها حق مفترض في الوجود، او ان انكار حق الدولة (س) او (ص) بالوجود هو منبوذ أخلاقيا لأنه لا يتضمن حلا قانونيا للدولة وانما تدمير للشعب الذي يعيش فيها. هذا التأطير قد يبدو وكأنه محض خطاب سياسي لا يهدف الى اثارة استجابة او نقاش جاد. انه قُصد به ان يسبق أي نقاش عام حقيقي حول اسرائيل/فلسطين الماضية والحالية. مع ذلك، الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يثير سؤالا فلسفيا واقعيا لكنه مُتجاهلا: ماذا نعني بالضبط عندما نقول حق الدولة في الوجود؟

يجب ملاحظة ان القول "الدولة (س) لها الحق في الوجود" لا يشبه القول "ان مواطني الدولة (س) لهم الحقوق التالية" – حق الحياة، حقوق مدنية وانسانية، ازدهار ثقافي. الإدّعاء يؤكد على ان حيازة الحق تقع في الدولة ذاتها، علاوة على ذلك، انه لا يؤكد على حق السلطة المشتقة (الضرائب وفرض القوانين والسيطرة على الحدود) وانما على الحق السابق في الوجود ذاته. هل هذا ادّعاء متماسك يمكن التمسك به لمصلحة أي دولة؟

الدول تأتي الى الوجود وتخرج منه في كل الاوقات. هذه قائمة ليست كاملة للدول التي وُجدت منذ الحرب العالمية الثانية ولم تعد موجودة: تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفيتي، اليمن الجنوبي، فيتنام الجنوبية، غرب وشرق المانيا، الجمهورية العربية المتحدة. كلما عدنا اكثر الى الوراء، سنجد الكثير من الدول المنحلّة: الرايخ الثالث، الامبراطورية العثمانية، بروسيا، الامبراطورية النمساوية المجرية، الامبراطورية الروسية، الكومنولث البولندي الليتواني، الامبراطورية الرومانية المجيدة وهكذا. دول اخرى لاتزال موجودة تحت نفس الاسم لكنها تقلصت ولم تعد تحكم نفس الاقليم (كما في باكستان والسودان).

وهكذا اذا كانت عبارة "الدولة (س) لها الحق في الوجود" تعني "اذا الدولة (س) كانت قد وُجدت ولم تعد موجودة، فهناك ظلم وقع تجاه الدولة (س)، ومن ثم فان ذلك يعني ان هناك ظلم او لاعدالة وقع على تلك الدول المعنية، لأنها لم تعد موجودة. يرى الكاتب ان هناك اليوم القليل يؤمن بان حل تشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا او الجمهورية العربية المتحدة تضمّن انتهاكا لحق تلك الدول ذاتها في الوجود. الفكرة بان الدول هي كيانات او اشخاص لهم حقوق في الوجود منفصلة عن حقوق الاشخاص الذين يعيشون ضمن تلك الدول تبدو فكرة لا يمكن تبريرها او الدفاع عنها. الدول عادة تأتي وتخرج من الوجود دون أي ظلم يحدث للناس أصحاب الشأن. يتبع ذلك ان حق الدولة (س) في الوجود ليس بالضرورة بغيض أخلاقيا.

ان المطالبة بالاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ليس نفس المطالبة "كل الاشخاص لهم الحق في العيش تحت حكم الدولة". المطالبة هي ان دولة معينة، ذات هوية محددة، لها الحق في الوجود. متى توجد مثل هذه الدولة؟ وكيف نستطيع التمييز بين الادّعائين: (س) "اشخاص لهم الحق ليعيشوا في ظل الدولة" و(ص) "دولة معينة ذات هوية محددة لها حق الوجود"؟

الدولة هي جهاز اداري سيادي يحكم أراضي معينة، يسيطر على الدخول والخروج من الاقليم، ويحوز على سلطة عليا ضمن ذلك الاقليم. ولكن ما المقصود بالدولة التي لها هوية محددة بحيث يمكن ان يُحكم نفس الشعب والاقليم من جانب دول مختلفة في اوقات مختلفة؟ الدول لها علامات لهوية متميزة، مثل أسماء وأعلام. لكن الدول هي ايضا تُعرّف من خلال مؤسساتها – ليس فقط المسائل التقنية للتنظيم وتقسيم السلطات وانما الطريقة التي تمثّل بها الدول سكان معينين وتعبّر عن هويات معينة، قيم وأهداف وتوزيع عضوية وحقوق وتمثيل.

من السخف الادّعاء ان ملكية بوربون الفرنسية وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة

تتوقف الدول عن الوجود من خلال تغييرات هامة كافية في أي من هذه المظاهر الاساسية لهويتها المحددة: الأراضي والسكان الذين تحكمهم، وايضا نظامهم المؤسساتي الاساسي او نوع النظام. المثال الذي نطرحه واضح جدا. أجهزة دولة سيادية معينة ذات أسماء محددة ومؤسسات لم تعد تحكم اراضي معينة، وان اسماء تلك الدول السابقة اُزيحت من الخارطة. في بعض الحالات، كامل الجهاز الاداري السابق جرى تفكيكه واستبداله.

هذا يصعب رؤيته في حالات تغيير النظام عندما لم تتغير جوهريا الارض المحكومة من جانب الدولة. لكن يمكن القول انه، في عدة حالات من الثورات العميقة بما يكفي، من غير المعقول القول ان نفس الدولة تحكم الاقليم والسكان قبل وبعد التحول. انظر في معظم الحالات الواضحة: انجلترا عام 1649، فرنسا عام 1789، الصين عام 1911 ومرة اخرى في عام 1949، روسيا عام 1917 وايران عام 1979. في كل هذه الثورات، بقيت الارض والشعب بدرجة أقل او أكثر هم ذاتهم، بالاضافة الى الاسم الشائع للبلد، على الاقل في زمن الثورة ذاته. لكن تغيير النظام في هذه الحالات النموذجية كان معظمه كليا في مستوى الايديولوجية، الشرعية، الادارة وتنظيم السلطة. يبدو من السخف الاعلان ان ملكية بوربون وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة. بالتأكيد، لو كان الملكيون طالبوا الاصلاحيين او الثوريين بين 1789-92 الاعتراف بحق الدولة في الوجود، فان ما يقصدونه ليس دولة فوق اراضي فرنسا وانما الملكية بالذات.

الان لننظر في حالتين اخريين: زيمبابوي حوالي 1980 وجنوب افريقيا بين 1993-97. من عام 1965-79، وُجدت روديسيا (مع عدم اعتراف دولي) في نفس الاراضي وبنفس السكان كما زمبابوي منذ 1980. ومع نهاية الكولنيالية وظهور نظام ما بعد الكولنيالية، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان. لكن هناك تغييرا في الاسم بالاضافة الى مؤسساتها الاساسية والاساس الاخلاقي. ونظرا لعمق هذا التحول، لذا يمكن اعتباره اكبر ادّعاء معقول بان روديسيا لم تعد كدولة، وان روديسيا وزمبابوي ليستا نفس الدولة.

اسم جديد يجعل من السهل رؤية التحول لكن تغيير الاسم هو عرض وليس عامل مقرر حقيقي. بين 1916-93، وُجدت جمهورية جنوب افريقيا (تحت مؤسستين متميزتين) كدولة ذات مواطنين واقليم محدد. بالطبع، هذه كانت عقود من الفصل العنصري. في عام 1993، كجزء من التحول من الفصل العنصري، تبنّت جمهورية جنوب افريقيا دستورا انتقاليا غيّر جوهريا الاساس العرقي للنظام السياسي، متبنيا دستور دائم في عام 1996 على اساس مساواة عرقية.

هل الدولة التي وُجدت في جنوب افريقيا بين 1961-93 لم تعد موجودة مع تبنّي دستور جديد ومساواة عرقية؟ من جهة، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان والاسم بين 1961-93 وبين 1993 حتى الحاضر. كيان سمي، جمهورية جنوب افريقيا لم يتوقف عن الوجود ابدا. هناك بالتأكيد بعض الاستمرارية في الجهاز الاداري والنظام الاجتماعي. مع ذلك، نعتقد من الخطأ القول ان الدول التي وُجدت بين 1961-93 وبين 1993- حتى الان هي نفس الدولة. بالتأكيد، اذا كان نظام الفصل العنصري عرض اطلاق سراح نيلسون ماندلا من السجن بشرط ان يعترف هو والمؤتمر الوطني الافريقي ANC"بحق جنوب افريقيا بالوجود"، فان المقصود ليس دولة على اقليم جنوب افريقيا وانما النظام القائم.

بكلمة اخرى، هوية دولة معينة تتشكل الى مدى كبير بواسطة نظامها. الدولة تغير وجودها من خلال تغيير عميق وكافي في جوهرها (نظامها). مختلف موجات التحولات الديمقراطية من الفاشية او الانظمة الشيوعية وفق هذه الرؤية انهت الدول السابقة وخلقت دولا جديدة. حتى عندما سميت دول مثل رومانيا، بلغاريا، هنغاريا، او البرتغال هي استمرت بالوجود، وان الدولة المحددة التي تحكم تلك الاقاليم والناس قد تغيرت. اذا كان ما تقدم من امثلة معقولا، فان الدعوة الى عدم وجود دولة ما غالبا ما تكون دعوة الى تغيير النظام وليس الى الإضرار بمجموعة سكانية محددة. في الحقيقة، في الغالب تكون دعوة لتحرير اولئك السكان.

وهكذا فان الدول يمكن ان تختفي في عملية إعادة بناء بدون عمل ضار او إيذاء. دعونا نسمي هذا "تدمير غير ضار لدولة". لكن من الواضح ليس كل تحوّل، تحطيم، حل او اعادة تركيب للدولة هو بلا أذى. ربما، مع الاخذ بالاعتبار كل شيء، استمرار وجود دولة معينة هو أفضل حالة اخلاقية. اذا كان الامر هكذا، هل نستطيع تحديد الظروف التي يصبح بها للدولة الحق في الوجود؟ لكي نجيب على هذا السؤال، علينا اولاً توضيح ماذا نعني بـ "الحق".

احدى النظريات السائدة حول معنى الحق هي، نظرية مصلحة الحقوق the interest theory of rights، جرى عرضها بالتفصيل من جانب الفيلسوف راز Raz. يعرض راز التعريف التالي للحق: "(س) لها حق" فقط عندما يمكنها امتلاك حقوق، وبثبات الاشياء الاخرى، مظهر رفاهية (س) (مصلحتها) هي سبب كافي لإعتبار بعض الاشخاص الاخرين تحت الواجب". هذا يعطينا العناصر المفاهيمية لحديث الحقوق: للتحدث عن الحق، نحن نحتاج لتوضيح: (1) اي طرف نحن على ارتباط به، (2) اي مصلحة لذلك الطرف هي هامة ولماذا هي هامة جدا وذات وزن كبير، (3) اي اطراف اخرى هي في موقع التأثيرعلى تلك المصلحة ايجابا او سلبا، و(4) اي انواع الواجبات التي تخضع لها الاطراف الاخرى. لكن هذه كلها تخلق اسئلة ومشاكل بدلا من التأسيس ببساطة لماهية الحقوق.

ان فكرة امتلاك الدولة لحق الوجود يثير مأزقين اثنين: اولا، هل الدولة شيء يمكن ان تمتلك حقوقا وهل مصلحة الدولة او رفاهيتها هي العامل الملائم أخلاقيا في وجودها؟ ثانيا، والاكثر اهمية، اي الاطراف الاخرى تحديدا يُعتقد انها تحت الواجب للاعتراف بوجودها وماذا يتطلب ذلك الواجب منهم؟

يرى أي شخص عدى الفوضويين، بانه يمكن للدول بوضوح امتلاك حقوق مشتقة من مصالح مواطنيها. اذا كان بامكان الدول امتلاك حقوق مشتقة (فرض الامن، الضرائب، فرض القوانين، الدخول في معاهدات)، فمن المعقول ان تلك الدول بامكانها امتلاك حقوق في الوجود مشتقة من مصالح مواطنيها في هذا الجهاز الاداري الموجود.

من هو المُلزم للاعتراف بحق الوجود لدولة معينة، وفي أي ظروف؟

انظر في الحجة التالية. افراد لهم الحق بخدمات مثل الأمن، الاستقرار الاقتصادي، حكم القانون، حقوق سياسية وانسانية. هذه الحقوق يمكن ضمانها فقط من خلال وكالة سيادية لها سلطة تأمين تلك الخدمات. لذلك، الاشخاص لهم حق العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها الحق في وجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها.

انظر في حجة اخرى. أشخاص لهم الحق في العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها حق في الوجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها. وكلاء آخرون يتعاملون بشكل غير عادل في حق الاشخاص الذين يعيشون في ظل الدولة عبر محاولة تحطيم الوكالة السيادية التي تضمن لهم خدمات أخلاقية هامة. ولذلك، فان الواجب الاخلاقي للوكلاء الاخرين هو ان لا يحطموا هذه الدولة.

يمكن اعتبار هاتين الحجتين معقولتين تماما. لكن، ما لم تثبته هذه الحجج بعد هو أي الوكلاء الاخرين تقع عليهم واجبات الاعتراف بحق الدولة المبرر على هذه الاسس في الوجود؟ على منْ يقع الالتزام وفي أي ظروف، للاعتراف بحق دولة معينة في الوجود؟

هناك اثنان من الوكلاء من الواضح هما تحت هذا الواجب. اولاً هو الدولة ذاتها، خاصة حكامها او مسؤوليها. اذا كانت الدولة شرعية فقط عندما تضمن الحقوق والخدمات المذكورة اعلاه للشعب الذي تحت حكمها، عندئذ يقع حكام ومسؤولو الدولة تحت التزام عدم انتهاك الحقوق والخدمات لذلك الشعب. ثانيا، هناك دول وقوى اخرى ملزمة بعدم تقويض او الإضرار بالمصالح الاساسية للشعب الذي تحكمه الدولة.

البساطة المخادعة لسؤال حق الدولة في الوجود تتجسد في حقيقة ان الدول باستمرار مهددة من دول اخرى بسبب مصالح تلك الدول. لو تركنا جانبا، على سبيل المثال، اسئلة عميقة حول العلاقات الاوكرانية مع كل مواطنيها، يبدو واضحا ان اوكرانيا لها الحق في الوجود تجاه روسيا، حتى لو كان كيانا مجردا يسمى "دولة اوكرانيا" ليس صاحب الحق النهائي على شعب واراضي حُكمت من جانب تلك الدولة حتى 2014 (عندما جرى ضم جزيرة القرم)، من باب اولى ان الدولة الروسية ليست صاحبة الحق على شعب واراضي اوكرانيا.

مع ذلك، دول اخرى لم تكن فقط وكلاء آخرين تطالبهم الدول بحق الوجود. هي تطالب بهذه الحقوق ضد الاشخاص والسكان. في بعض هذه الحالات، من غير الواضح ان هؤلاء الوكلاء (الاشخاص الاخرون) يفتقدون للمصالح او المواقف للبحث عن حل او تحول راديكالي للدولة، او انهم تحت واجب اخلاقي لإعتراف بحق تلك الدولة في الوجود.

الحجتان أعلاه توضحان المصالح التي يمكن ان تبرر وجود دولة وهما تفترضان دون جدال وجود سكان على اقليم معين لديهم مجموعة مشتركة من المصالح وادارة مشتركة للرغبة في الوكالة السيادية. كلتا الحجتين تجاهلت ثلاثة عناصر هامة.

اولا هما تؤسسان حق للسكان في الدولة، ولكن ليس لدولة معينة ذات ثقافة معينة وهوية اثنية محددة.

ثانيا هما لا تعالجان الكيفية التي يعيش بها سكان معينين في اقاليم محددة في المقام الاول.

اخيرا هما لا تعالجان كيف اصبحت اقاليم محددة منفصلة قانونا عن الاقاليم الاخرى.

يتكون السكان باستمرار كنتيجة لعنف عميق ومتطرف احيانا، ونتيجة لتغيرات ديموغرافية ضمن الاقليم. الدول تتكون تقريبا بواسطة فصل اقليمي عشوائي وعنيف بدون موافقة ديمقراطية من كل السكان الذين ربما لديهم مصالح مشروعة في هذا القرار. المنظرون السياسيون عادة يشيرون الى هذا بـ "مشكلة حدود" او "مشكلة المواطنين demos problem".

الديموقراطيون يريدون ان تُشتق شرعية النظام الدستوري من موافقة الناس الحقيقية او الضمنية او الافتراضية ليُحكموا بطريقة معينة. لكن ترسيم الناس ذاتهم ليس شيئا يمكن ان يتقرر ديمقراطيا.

الامثلة هنا لا تعد ولا تحصى. كيف ان "الناس الديمقراطيون" في الدول الاستعمارية الاستيطانية في امريكا واستراليا لم يبرزوا الاّ من خلال مختلف اشكال العنف وسرقة الاراضي والتطهير العرقي والطرد والاستبعاد او الحجز؟ كيف ان الاكثريات الاثنية في الدول التي أعقبت امبراطوريات متعددة الاعراق لم تتأسس الاّ من خلال تطهير اثني مستمر، استبدال للسكان او استيعاب قسري؟ حتى في السياقات التي لم يكن فيها العنف شديدا او التطهير العرقي سببا مباشرا او نتيجة لتكوين الدولة، كان رسم الحدود وتقسيم الاراضي او تحديدها ينطوي دائما على قرارات تعسفية بالتضمين او الاستبعاد والتي لا يمكن ان تكون ديمقراطية على الاطلاق.

ربما يجيب احد بانه اذا لم تتأسس اي دولة تقريبا في لحظات من الموافقة الكاملة غير العنيفة من قبل سكان لا يتضمنون اي اقصاءات عميقة او ضم قسري على ارض واضحة لا تتنازع عليها اي جماعة اخرى(لنسمي هذا معيار ايسلندا)، فان اي دولة تقريبا لا تكون شرعية تماما وبالتالي لا توجد دولة غير شرعية بشكل متميز. لكن ذلك سيكون غير معقول ورافض للحقوق المتأصلة للافراد في العدالة. انه اكثر معقولية القول بان كل الدول هي مشاريع دائمة لتأسيس شرعية تتجه بها نحو شيء ما مثل العدالة وقبول صالح وملائم.

قانون التقادم في العدالة التاريخية من غير المحتمل ان يكون غامضا وغير محدد

اذا كانت كل الدول تقريبا تشكلت من خلال لاعدالة تاريخية، فان حق الدولة في الوجود هو نسبي قياسا بمطالبات العدالة ضدها. لا وجود لجواب واحد لكيف يجب اصلاح اللاعدالة التاريخية. احيانا التقسيم، الانفصال او تكوين حدود جديدة هو الجواب المعقول ديمقراطيا والاقل ضررا. احيانا، الاستعادة او نقل السيادة على الارض ومواردها. احيانا، حق الناس النازحين للعودة لأماكنهم الاصلية. او، في ارساء الديمقراطية او تغيير النظام ضمن دولة معينة. بعض هذه الاجوبة ستتطلب انهاء الدول الموجودة او إعادة تشكيلها، والبعض سوف يتطلب اصلاحات قائمة على العدالة ضمن الحدود الاقليمية والدستورية للدولة القائمة.

يجب ملاحظة ان هناك اسئلة فلسفية معقدة مطروحة لايمكن حلها كليا هنا. احد هذه الاسئلة خصيصا: مشكلة الغموض المنتشرة في كل مكان. الغموض عادة يشير الى مشكلة تحديد شيء ما كما في شيء (ليس كومة من الرمل) يتحول الى شيء آخر (كومة من الرمل) عندما لا يحدد تغيير منفرد (اضافة حبة منفردة) بوضوح هذا التحول. الغموض يلف مشكلتين ضمن النقاش الحالي.

اولا، نحن ربما نقول ان بعض اللاعدالات التاريخية هي حية وبارزة لكن البعض منها بعيد جدا في الماضي بحيث أي محاولة لعكسها يستدعي فقط لاعدالة جديدة اكبر. لكن التقادم في العدالة التاريخية يبدو غامض وغير محدد. ميراث عبودية شمال امريكا هي بالتأكيد لاتزال بارزة، لكن ماذا عن فتح القسطنطينية او طرد المسلمين واليهود من الاندلس؟

ثانيا، هناك ايضا غموض معين في تحديد متى التغيير الداخلي في نظام الدولة يشكل نهاية محددة لدولة وظهور اخرى. بعض التغيرات الدستورية عميقة جدا تكفي للقيام بهذا، لكن ليس دائما، وربما غير ممكن القول بالضبط أي التغيرات تؤدي الى هذا التحول الانطولوجي من دولة الى اخرى. لكن هذا لن يؤثر على الادّعاء بان الدول لم تتمتع ابدا بحقوق كاملة ودائمة في الوجود في شكلها الحالي بحيث يخلق واجبات القبول او الاعتراف لدى جميع الشعوب المتأثرة بها.

طالما معظم الدول تأسست بشكل من العنف، الاستبعاد، الطرد او اللاعدالة، فمن الاخلاقي عدم تماسك القول ان الافراد او السكان هم بالتالي خاضعين لواجب الاعتراف في شرعية حدث تاريخي. في الحد الادنى، المدافعون عن الدولة سيتعين عليهم اثبات حدوث تعويض لتلك اللاعدالة التاريخية او ان الحفاظ على الوضع الراهن هو من غير المحتمل ان ينتج فضائعا او لاعدالة اخرى.

القوة البلاغية لطلب الاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ان هذه الدول تتوقف عن الوجود فقط عندما يتحطم الجزء الاكبر من سكانها او كلهم. لكن هذا زائف. الدول يمكن ان تتوقف عن الوجود عبر اندماجها بدولة اخرى، او تقسيمها الى دول اصغر، او بتغيير هائل وهام في النظام بحيث يحوّل جوهر الدولة. كل هذه العمليات يمكن ان تحدث بدرجة اكبر او اقل من العنف.

ذلك لا يعني عدم حدوث ظلم اذا توقفت الدولة عن الوجود بدون خسارة هامة في حياة السكان. الدولة يمكن التغلب عليها بسرعة من دول اجنبية بخسارة قليلة نسبيا في الحياة ولكن مع ضرر كبير في الحقوق الانسانية والسياسية والمدنية للشعب المنتصر. الانظمة التي تفتقر الى الشرعية يمكن الاطاحة بها عبر الثورات التي تستمر لاحقا في ايذاء وظلم الشعب الذي تحكمه بحجم اكبر من النظام السابق اللاشرعي. الناس يمكن ان يتعرضوا للظلم والايذاء بخسارة دولتهم ذاتها وبأذى مصالح الاخرين.

لكن الناس يمكن ان يتعرضوا للاذى بدون ظلم. يمكن ان يصيبهم الاذى والظلم مع تبرير تلك الاضرار والاخطاء، كل الاشياء تؤخذ بنظر الاعتبار. مالكو العبيد والنخب الاخرى في الكونفدرالية اصيبوا بالاذى بواسطة اعادة البناء لكنهم لم يُظلموا. الالمان الذين طُردوا من تشيكوسلفاكيا بعد الحرب العالمية الثانية تعرضوا للاذى والظلم لكن هذا ظلم جرى تبريره، بالنظر لميراث الاحتلال النازي.

ليس كل حالات تحطيم الدولة هي غير مؤذية وغير ظالمة او تحسين أخلاقي

المسألة الاساسية هي الاستمرار في التأكيد على حقيقة ان تغيرات عميقة كافية في نظام الدولة الحاكم والايديولوجية يمكن ان يشكل نهاية دولة وبداية دولة اخرى. في حالة الدول التي تحكم شعب ذو اهمية بدون منحه حقوق سياسية ومدنية متساوية، او شعب يتمتع باكثرية ديموغرافية بسبب التطهير العرقي او التقسيم، فان تصحيح تلك اللاعدالة التاريخية قد يؤدي الى خلق دول جديدة. مع ذلك، هذا لا ينبغي ان يتضمن أي فضائع ضد السكان المحليين. مرة اخرى، الحالة النموذجية في جنوب افريقيا شهدت تغييراً عميقا في النظام بدون فضائع واسعة. لهذا من الصحيح أخلاقيا إنكار امكانية ان يكون للدولة حق الوجود دون تحطيم الشعب الذي يعيش ضمن تلك الدولة.

بالطبع، ليس كل حالات تحطيم الدولة هي بلا أذى وبلا ظلم او تحسين أخلاقي. تحطيم الدولة يمكن ان يقود الى العديد من الفظائع الكبيرة او كوارث انسانية اخرى. في الوقت الحالي، العالم يستيقظ على انهيار نظام الاسد في سوريا، بينما اسئلة كبيرة عديدة تبقى حول ما ينتظر هذا البلد المعذب وذو المعاناة الطويلة من حكامه الجدد.

ان تصحيح الأخطاء التاريخية او اللاعدالة السياسية يجب موازنتها مع كلفتها الانسانية والمسؤولية عن خلق المستقبل. هذه كما يرى البعض أفضل طريقة في الحديث عن حق الدولة في الوجود. بمعنى "ان المخاطر الانسانية المترتبة على تصحيح الظلم التاريخي واستعادة حقوق منْ انتُزعت منهم اراضيهم بشكل غير شرعي هي كبيرة جدا. العدالة لايمكن تحقيقها الاّ بتكلفة انسانية عالية، ربما لكلا النوعين من السكان".

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) Andrew F March بروفيسور العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة. هو مؤلف الاسلام والمواطنة الليبرالية (2009)، خلافة الانسان (2019) وحول الديمقراطية المسلمة (2023) بالاشتراك مع رشيد الغنوشي.

 

في المثقف اليوم