أقلام فكرية
غالب المسعودي: جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفارابي

على الرغم من التشابهات الأساسية بين فلسفة أفلاطون في الجمهورية وفلسفة الفارابي في المدينة الفاضلة، خاصة في تصورهما للدولة المثالية التي يحكمها حاكم فيلسوف، إلا أن هناك اختلافات جوهرية تنبع من اختلاف الإطار الفكري والديني لكل منهما. كلاهما يطرح فكرة مدينة مثالية غير موجودة على أرض الواقع، تمثل نموذجًا للكمال الاجتماعي والسياسي. يرى كل من أفلاطون والفارابي أن الهدف الأسمى للدولة هو تحقيق العدالة والسعادة لمواطنيها. فالعدالة ليست مجرد قانون، بل هي حالة من الانسجام بين أفراد المجتمع، حيث يؤدي كل فرد وظيفته على أكمل وجه. كما يتفقان على أن أفضل من يحكم المدينة هو الفيلسوف الحاكم عند أفلاطون، والرئيس الأول عند الفارابي. هذا الحاكم يجب أن يمتلك الحكمة والمعرفة المطلقة، وأن يكون بعيدًا عن شهوات الدنيا ومصالحها الشخصية.
الأسس الميتافيزيقية ومصدر المعرفة
اعتمد أفلاطون في تصوره على نظرية المثل، حيث يرى أن عالمنا المادي هو مجرد نسخة من عالم المثل الأبدي. يصل الفيلسوف الحاكم إلى الحقيقة عن طريق العقل والتفلسف المجرد، ليتمكن من إدراك "مثال الخير" والعدالة وتطبيقه على إدارة المدينة. اما الفارابي يربط تصوره بأسس ميتافيزيقية إسلامية. يستمد فكرة "الرئيس الأول" من مفهوم "المبدأ الأول" (الله) الذي هو مصدر النظام والكمال في الكون. المدينة الفاضلة عنده هي انعكاس لهذا النظام الإلهي. يضيف الفارابي إلى المعرفة العقلية عنصرًا دينيًا، فالرئيس الأول قد يكون نبيًا يوحى إليه، مما يمنحه كمالًا في المعرفة لا يستطيع العقل وحده تحقيقه.
دور الدين والعقل في نظرية الفارابي
اعطي الفارابي للدين دورًا محوريًا وأساسيًا في تأسيس المدينة الفاضلة. فالقوانين والأنظمة تُشرع لتعمل على تحقيق السعادة، التي هي هدف ديني وأخلاقي في آن واحد، يمكن القول إن الفارابي أخذ الهيكل العام لمدينة أفلاطون الفاضلة، لكنه ألبسها ثوبًا جديدًا يتماشى مع الفكر الإسلامي، مضيفًا بُعدًا دينيًا ونبويًا لم يكن موجودًا في الطرح الأصلي لأفلاطون.
مفهوم العقل عند الفارابي
الفارابي يرى أن العقل هو الأداة الأساسية لتحصيل الفضيلة والسعادة، لكنه يميز بين مستويات مختلفة للعقل، ويربط بينها وبين الفيض الإلهي والنبوة. يمر العقل البشري بمراحل تطور مختلفة، من "العقل بالقوة" (الاستعداد للمعرفة) إلى "العقل بالفعل" (المعرفة الفعلية) وصولًا إلى "العقل المستفاد". هذا العقل المستفاد هو الذي يصبح جاهزًا لتلقي الفيض من "العقل الفعال"، وهو عقل مفارق للمادة في نظر الفارابي، ويعادله في نظريته مع جبريل عليه السلام. يستطيع الفيلسوف، من خلال التأمل العقلي والمنطق، أن يتصل بالعقل الفعال ويستمد منه المعرفة الكاملة. تتشابه حالة النبي مع الفيلسوف، لكن النبي يتميز بـ “القوة المتخيلة" التي تمكنه من استقبال الفيض في صورة محسوسة ومتخيلة (مثل الوحي)، ثم يعبر عنها بلغة تناسب عامة الناس.
التكامل بين العقل والوحي
لا يرى الفارابي أي تعارض بين العقل والوحي. فكلاهما يهدف إلى تحقيق نفس الغاية، وهي معرفة الحقيقة والفضيلة، ولكن من خلال مسارين مختلفين. العقل يدرك الحقائق بطريقة فلسفية برهانية، بينما النبوة تعرضها بطريقة دينية رمزية. يمثل كل من النبي والفيلسوف أعلى مراتب الكمال الإنساني، لأن كلاهما يتصل بالعقل الفعال. لكن الفيلسوف يدرك الحقائق في صورتها المجردة، بينما يدركها النبي في صورة متخيلة، ويتمكن من نقلها للناس بلغة يفهمونها.
مفهوم العقل في الفلسفة اليونانية
أناكسغوراس: كان أول من قدم مفهوم "النووس" (العقل الكوني)، لكنه اعتبره مجرد محرك أو منظم للعالم، دون أن يكون له دور أخلاقي أو غائي في توجيه الإنسان.
أفلاطون: ربط العقل بـ "عالم المُثُل"، واعتبره الأداة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يدرك بها الحقيقة المطلقة "مثال الخير". العقل هنا ليس مجرد أداة للمعرفة، بل هو أساس للفضيلة والحكمة. الفيلسوف الحاكم هو من وصل إلى أعلى درجات العقل.
أرسطو: طور مفهوم "العقل الفعال"، واعتبره جزءًا إلهيًا مفارقًا للمادة. العقل الفعال هو الذي يمنح العقل البشري (العقل بالقوة) القدرة على التفكير الفعلي، وهو غاية الوجود الإنساني في تحقيق الكمال.
العقل والميتافيزيقا
الميتافيزيقا الفلسفية تهدف إلى فهم ما هو أبعد من العالم المادي، مثل طبيعة الوجود، الحقيقة المطلقة، والغاية من الحياة. هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالمختبر أو التجربة، كانت الفلسفة اليونانية التي اعتمد عليها الفارابي تهتم بالميتافيزيقا بشكل كبير. كان هدف أفلاطون وأرسطو ليس بناء إلاه، بل بناء فهم كامل للكون والإنسان، وهذا الفهم كان أساسًا للمنطق والأخلاق. كذلك الفارابي لم يكن يهدف إلى بناء نظرية فيزيائية، بل إلى تأسيس فلسفة سياسية وأخلاقية على أساس عقلي متين. ربط الفارابي الميتافيزيقا اليونانية بالميتافيزيقا الإسلامية. واعتبر ان مصدر المعرفة ليس هو العقل فقط، بل هو العقل الفعّال الذي هو مصدر الوجود والمعرفة معًا، لم تكن الفلسفة عند الفارابي مجرد تأمل نظري، بل كانت لها غاية عملية وهي توجيه الإنسان والمجتمع نحو السعادة القصوى، وهذه السعادة لا تتحقق إلا بالفضيلة.
استمرارية المدينة الفاضلة
هناك معضلة منطقية حقيقية في نظرية الفارابي، إذا كان الرئيس الأول يمثل قمة العقل، فهل يجب أن يكون الرئيس الثاني على نفس المستوى؟
الاحتمال الأول: الرئيس الثاني لا يمكن أن يكون مساويًا للأول. هذا يتناقض مع فكرة استمرارية المدينة الفاضلة، لأن تراجع مستوى العقل سيؤدي حتمًا إلى تدهورها.
الاحتمال الثاني: الرئيس الثاني يمكن أن يكون مساويًا أو أفضل من الأول. هذا يفتح الباب أمام التنافس والصراع على السلطة، مما يعيدنا إلى نفس المشاكل التي تحاول المدينة الفاضلة حلها.
هذه المعضلة لم يتطرق لها الفارابي بشكل مباشر، وتبقى نقطة ضعف في نظريته السياسية. ربما يمكن تفسير هذا القصور من خلال التأكيد على أن وظيفة الرئيس الثاني ليست إبداعية بقدر ما هي حفظ وتطبيق للقوانين. فالرئيس الأول هو المشرّع والمؤسس، أما الرئيس الثاني فهو القائم على تنفيذ هذه الشرائع.
لفلسفة كمقاومة
الفلسفة في جوهرها هي نقد وتساؤل مستمر. أدواتها (المنطق، البرهان، التفكير النقدي) ليست مجرد أدوات أكاديمية، بل هي وسائل للكشف عن الأخطاء والظلم والزيف في المجتمع. الفيلسوف الحقيقي، من منظور أخلاقي، لا يمكنه أن يرى الظلم ويسكت عنه. وعندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة. عندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة. في هذه الحالة، يصبح صمت الفيلسوف خيارًا للبقاء، وليس بالضرورة موافقة على الظلم، قد يشعر الفيلسوف بأن أدواته الفلسفية غير كافية لمواجهة قوة السلطة، وأن الكلام لن يغير شيئًا، مما يؤدي به إلى اليأس والإحباط بدلًا من المواجهة المباشرة التي تؤدي إلى إقصائه تمامًا. إن دور الفيلسوف في المجتمع هو مرآة للعقل، وعندما تصبح هذه المرآة ضبابية أو مكسورة، يكون ذلك مؤشرًا على أزمة ليس فقط في الفيلسوف نفسه، بل في المجتمع الذي أضعف دوره. الفارابي، لم يُعرف عنه بشكل مباشر استخدام الفلسفة كمقاومة بالطريقة التي يمكن أن نفهمها من خلال فلاسفة آخرين مثل سقراط أو فوكو. ومع ذلك، يمكن تحليل بعض جوانب فلسفته في سياق المقاومة الثقافية والفكرية. الفارابي عمل على دمج الفلسفة اليونانية مع الفكر الإسلامي، مما ساعد في الحفاظ على التراث الفلسفي وتطويره في سياق إسلامي. هذا الإبداع الفكري يمكن اعتباره نوعًا من المقاومة ضد التقاليد الفكرية الجامدة. في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، قدم الفارابي تصورًا لمجتمع مثالي يقوم على مبادئ العدالة والمعرفة. هذا يمكن أن يُعتبر دعوة للمقاومة ضد الفساد الاجتماعي والسياسي ،الفارابي انتقد بعض المفاهيم السائدة في مجتمعه، مثل فكرة السلطة المطلقة، مشددًا على أهمية الحكمة والمعرفة كوسيلة للحكم الرشيد من خلال تأكيده على أهمية العقل والتفكير المنطقي، قدم الفارابي أداة لمواجهة الجهل والتقليد، مما يعزز من قدرة الأفراد على التفكير النقدي ومقاومة الأفكار المسبقة ،بينما لا يمكن وصف الفارابي بأنه استخدم الفلسفة كمقاومة بشكل صريح، فإن عمله الفكري ساهم في تعزيز الاتجاه التوفيقي من المعرفة والتفكير النقدي، مما لا يمكن أن يُعتبر نوعًا من المقاومة الثقافية والفكرية في عصره. الفلسفة كمقاومة تتعلق بفهم كيفية استخدام الفكر الفلسفي كوسيلة لمواجهة التحديات والظلم. يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها أداة لتعزيز النقد والتفكير المستقل، مما يسمح للأفراد بمواجهة الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تقيد حرياتهم أو تفرض عليهم قيودًا.
***
غالب المسعودي