أقلام فكرية

سلوى بن احمد: أنثروبولوجيا التّصوف.. الأهميّة، المجالات، والتّحدّيّات

يُشكّل التّصوّف، بتجلياته المتعدّدة عبر الثّقافات والحضارات، مجالا خصبا للدّراسة الأنثروبولوجية، فهو لا يقتصر على مجرد ممارسات دينيّة، بل يتجاوز النّظرة اللاّهوتية البحتة ليشمل منظومة من المعتقدات، والسلوكيّات، والخبرات الشّخصيّة التّي تُعرف وتُفهم من خلال منظورها الثّقافي.

تُعنى أنثروبولوجيا التّصوف بفهم هذه المنظومة، وكيفيّة تفاعلها مع البِنى الاجتماعيّة والثّقافية المختلفة، وكيف تُشكل هذه التّجربة الرّوحيّة حياة الأفراد والمجتمعات، وتركّز على تجلياتها في الواقع المعيش، وكيف تتشكّل وتتطوّر عبر الزّمان والمكان، وتتفاعل مع السّياقات الثّقافية المختلفة .

1/ أنثروبولوجيا التّصوف وأهمّيتها:

تُعرف أنثروبولوجيا التّصوف بأنّها دراسة الممارسات الصّوفيّة من منظور أنثروبولوجي، معتمدة على المنهجية الإثنوغرافيّة التّي تركّز على الوصف الدّقيق وجمع المعلومات من خلال الملاحظة، ويهدف هذا التّخصص إلى تفسير السّلوك الباطني أو الهدف الخفيّ من هذه الممارسات، وكيف تتجسد الظّاهرة الدّينية في ظلّ الزّمان والمكان الذّي يحدّده الشّيخ لمريده [1].

وتكمن أهمّية أنثروبولوجيا التّصوف في قدرتها على تقديم فهم شامل ومتعدد الأبعاد للظّاهرة الصّوفية، والذّي لا يقتصر على الجوانب الرّوحية أو الفلسفية، بل يمتد ليشمل التّعبيرات الثّقافية والاجتماعيّة والسّياسيّة، فهي تبحث في كيفيّة تشكيل التّصوف للهويّات الفرديّة والجماعيّة، وتأثيره على العلاقات الاجتماعيّة، ودوره في المشهد السّياسي على حدّ السّواء.

كما لا يقتصر اهتمام الأنثروبولوجيا بالتّصوف على الجانب الوصفي، بل يتجاوز ذلك إلى التّحليل النّقدي، فبدلا من الاكتفاء بتسجيل الممارسات والطّقوس، تسعى هذه الدّراسة لفهم الدّوافع الكامنة وراء هذه الممارسات، وكيف تساهم في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة، فعلى سبيل المثال، تُحلّل أنثروبولوجيا التّصوف دور الرّموز والطّقوس في خلق حالة من التّواصل مع ما وراء الطّبيعة، وكيف تُسهم هذه الطقوس في بناء الرّوابط الاجتماعيّة وتقوية الشّعور بالانتماء إلى جماعة معيّنة، وهو ما يعكس الأهميّة الكبرى لهذا المجال.

2/ أنثروبولوجيا التّصوف: أنساق الدّراسة ومجالات البحث

أ/ أنساق الدّراسة:

تتناول أنثروبولوجيا التّصوف عدة محاور رئيسيّة لفهم الظّاهرة الصّوفيّة أهمّها:

- الممارسات والطّقوس الصّوفية: حيث تركّز على تحليل الطّقوس والممارسات المتنوّعة التّي تميّز الطّرق الصّوفية المختلفة مثل الذّكر، والجذب، والموالد، والزّيارات للأضرحة، ففي العراق مثلا، بيّنت الدّراسات في المجال أنّ الواقع الدّيموغرافي ووجود أضرحة مؤسّسي الجماعات الصّوفية (القادريّة، الرّفاعية، النّقشبنديّة) له الأثر الأكبر في تشكيل التّجربة الصّوفية العراقيّة.

وفي المغرب، تُعد طقوس "كناوة" مثالا بارزا على الممارسات الشّعبية التّي تمزج بين الدّيني والسّحري، وتعكس تفاعل الثّقافة المحليّة مع الأصول الأفريقيّة .

- الهياكل التّنظيميّة للطّرق الصّوفيّة: إذ تدرس كيفيّة تنظيم الجماعات الصّوفيّة في "زوايا" أو "طرق"، وكيف تتجاوز هذه الهياكل الحدود الجغرافيّة والثّقافية واللّغويّة، ففي أمريكا الشّمالية مثلا تخضع الحركات الصّوفيّة لموجتين تنظيميّتين هما إعادة هيكلة الجماعات إلى النّموذج التّقليدي للطّريقة، أو التّفكيك والخروج من الأنماط التّقليديّة للاندماج في ديناميّات السّوق الدّينيّة.

ب/ مجالات البحث:

تتنوّع أساليب البحث في أنثروبولوجيا التّصوف، فهي لا تقتصر على الملاحظة الميدانيّة والمقابلات، بل تتوسّع لتشمل تحليل النّصوص الدّينية والأدبيّة، ودراسة الفنون والعمارة المرتبطة بالتّصوف، فدراسة الخطوط الكوفيّة في الفن الإسلامي على سبيل المثال، تكشف عن أبعاد روحيّة عميقة تعكس تجربة التّصوف لدى الفنّانين، كذلك، دراسة الموسيقى الصّوفية وطقوسها، تُبرز العلاقة الوثيقة بين الموسيقى وبعض الحالات الرّوحيّة، ومن أمثلة مجالات البحث في أنثروبولوجيا التّصوف:

- التّجربة الشّخصيّة للتّصوف: حيث تركّز هذه الدّراسات على فهم تجارب الأفراد الرّوحيّة، وكيفية تأثيرها على حياتهم اليوميّة، وتكوين هويّتهم.

- التّصوف والسّلطة: تُحلّل هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوّف والسّلطة السّياسيّة والدّينية، وكيف استُخدم التّصوف أحيانا كأداة لتدعيم السّلطة أو كوسيلة للمقاومة.

- التّصوف والجنس: وتبحث هذه الدّراسات في دور الجنس والنّوع الاجتماعي في تشكيل التّجربة الصّوفيّة، وكيف تختلف هذه التّجربة بين الرّجال والنّساء.

- التّصوف والبيئة: تُبرز هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوف والطّبيعة، وكيف يُستخدم التّصوف في الحفاظ على البيئة.

- علاقة التّصوف بالثّقافة والفن: وتبحث في تأثير التّصوف على الفنون المختلفة كالأدب والموسيقى والشّعر، وكيف يعاد تشكيل ممارساته وخطاباته ضمن سياقات ثقافيّة متنوعة، ويُعد جلال الدّين الرّومي مثالا على ذلك، حيث أصبح شخصيّة مرجعيّة في التّصوف العالمي، وتُرجمت قصائده والعديد من انتاجاته الأدبيّة والفنيّة في الغرب.

- التّصوف والسّياسة: تتناول الأنماط السّياسيّة للتّصوف المعاصر واستراتيجيّاته للتّكيف ضمن المجال السّياسي العالمي، ففي الجزائر مثلا، يظهر الدّعم الحكومي للصّوفيّة جزءًا من مشروع سياسي لمواجهة الحركات السّلفيّة، وفي تركيا حركة غولن والتّي رغم أنّها لا تعلن عن انتمائها الصّوفي بشكل مباشر في السّياق الوطني، إلاّ أنّها تركز على هذا الانتماء عند تقديم نفسها في الأوساط الغربيّة .

- التّصوف المعاصر والعولمة: تدرس كيفيّة تحوّل التّصوف إلى ظاهرة عالميّة تتميّز بأنماط جديدة من التّعبيرات الدّينية والثّقافية والسّياسيّة، وكيف يتفاعل مع مفاهيم مثل "العهد الجديد" (New Age) التّي تجعله تجربة روحيّة عالميّة غير مرتبطة بدين معيّن .

- التّصوف والفلسفة: تهتم أنثروبولوجيا التّصوف أيضا بالعلاقة بين الفلسفة والتّصوّف، وكيف استفاد الخطاب الصّوفي من مفاهيم فلسفيّة في نظرته إلى العالم والتّأويل، وكيف قدمت الفلسفة أدوات معرفيّة لمقاربة ظاهرة التّصوف، ويُعد ابن عربي من أبرز الفلاسفة الصّوفيّين الذّين قدّموا مفهوم "روحانيّة الجسد" متجاوزا الثّنائيّة التّقليدية بين الجسد والرّوح .

3/ التّحديّات والمستقبل:

تواجه أنثروبولوجيا التّصوف تحدّيّات تتعلّق بتعقيد الظّاهرة الصّوفيّة وتنوّعها، وضرورة تجاوز النّظرات التّبسيطيّة أو الأحكام المسبقة، كما أنّ هناك حاجة لدراسة جوانب لم تُغطّ بشكل كاف، مثل علاقة الشّيخ بالمريد في سياق العولمة، وحضور المرأة والشّباب في الحركات الصّوفية المعاصرة، واستخدام الأدوات الجديدة لنشر التّصوف عبر وسائل التّواصل الاجتماعي والمهرجانات الثّقافية.

وبناء على ما سبق، تُعد أنثروبولوجيا التّصوف مجالا بحثيّا غنيّا ومتنوّعا، يساهم في فهم أبعاد التّجربة الرّوحية الإنسانيّة، وكيفيّة تفاعلها مع السّياقات الثّقافيّة المختلفة، فهي لا تُقدم فقط وصفا للممارسات الصّوفية، بل تُساهم في فهم العمليّات الاجتماعيّة والثّقافيّة التّي تُشكّل هذه التّجربة، وتُبرز دورها في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة.

تسعى أنثروبولوجيا التّصوف إلى فهم "الظّاهرة الصّوفية" بتعقيداتها وتنوّعها، من خلال ملاحظة الممارسات كما هي في الواقع، وتحليل الطّقوس والخطابات، ووضعها في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي عالمي.

***

د. سلـــوى بن أحمد

في المثقف اليوم