أقلام فكرية

إحسان الحيدري: بوصلة في بحر اليقين الزائف

دور الفلسفة الحيوي في معالجة أزمات الإنسان والمجتمع المعاصر

مقدمة: الفلسفة اليوم.. ضرورة لا ترف فكري

في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية، وتستعر فيه الانقسامات الأيديولوجية، وتتعقد فيه القضايا الأخلاقية، يبدو السؤال عن جدوى الفلسفة، ذلك الحقل المعرفي العتيق، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من التساؤلات المجردة التي لا تلامس أرض الواقع، حبيسة الأروقة الأكاديمية وبروجها العاجية. لكن هذا التصور يغفل عن جوهر الفلسفة الحقيقي؛ فهي ليست مجرد ترفٍ فكري، بل هي ضرورة منهجية وأخلاقية لفهم واقعنا وتفكيك مشكلاته.

إن الفلسفة، في جوهرها، هي فن "التساؤل المنضبط" و "التفكير النقدي العميق" حول المبادئ الأولى والأسس التي يقوم عليها وجودنا، ومعرفتنا، وقيمنا. وفي عالمنا المعاصر، المشبع بالمعلومات المتضاربة، واليقين الزائف، والتحديات الوجودية، تقدم الفلسفة الأدوات المنهجية اللازمة ليس فقط لتشخيص المشكلات، بل لاقتراح مسارات لمعالجتها على المستويين الفردي والاجتماعي.

أولًا: الفلسفة كأداة لتفكيك الواقع (المشكلة المنهجية)

قبل الخوض في المشكلات المحددة، لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الأولى التي يعالجها الفكر الفلسفي هي "أزمة التفكير" ذاتها. نعيش اليوم في "مجتمع ما بعد الحقيقة" (Post-truth Society)، حيث تُطمس الحدود بين الحقيقة والرأي، وبين الخبر والبروباغندا.

1. مواجهة السطحية وغسيل الأدمغة: تُعد الفلسفة، وتحديدًا "نظرية المعرفة" (Epistemology) و"المنطق"، خط الدفاع الأول ضد التضليل المعلوماتي. هي لا تعلمنا ماذا نفكر، بل كيف نفكر. تدربنا الفلسفة على:

أ‌- تفكيك المغالطات المنطقية: التي تعج بها الخطابات السياسية والإعلامية.

ب‌- تقييم مصادر المعرفة: التمييز بين المعرفة الموثوقة والادعاءات الزائفة.

ت‌- تحليل الافتراضات المضمرة: كشف ما يكمن خلف الشعارات البرّاقة والأيديولوجيات المتطرّفة.

في زمن الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) وتقنيات "التزييف العميق" (Deepfakes)، يصبح التفكير النقدي الذي تبنيه الفلسفة ليس مجرد مهارة أكاديمية، بل أداة بقاء ديمقراطي واجتماعي.

2. أنسنة التكنولوجيا (المشكلة التكنو-أخلاقية): لقد وضعتنا الثورة التكنولوجية أمام معضلات لم يسبق للبشرية أن واجهتها. هنا، يبرز دور "فلسفة التكنولوجيا" و "الأخلاقيات التطبيقية" (Applied Ethics) بقوة.

أ‌- أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: تطرح الفلسفة الأسئلة الحاسمة: كيف نضمن ألا تكون الخوارزميات متحيّزة؟ من المسؤول أخلاقيًا عن أخطاء الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا؟ وما هي حدود العلاقة بين الإنسان والآلة؟

ب‌- البيوإيتيقا (الأخلاق الحيوية): مع تطور تقنيات التعديل الجيني (مثل كريسبر)، تتصدى الفلسفة لسؤال "ما معنى أن تكون إنسانًا؟". هل يحق لنا "تصميم" أطفالنا؟ وما هي الخطوط الحمراء في التدخل البيولوجي؟

ت‌- الخصوصية والمراقبة: في عصر "رأسمالية المراقبة"، يعيد الفلاسفة فتح نقاشات عميقة حول مفهوم "الذات"، و "الحرية"، و "الحق في الخصوصية" في الفضاء الرقمي.

ثانيًا: الفلسفة كمرشد للعيش (المشكلات الفردية)

على المستوى الفردي، يعاني إنسان العصر الحديث من أزمات وجودية عميقة: الاغتراب، القلق، وفقدان المعنى.

1. البحث عن المعنى في عالم متغير: في مواجهة تراجع السرديات الكبرى التقليدية وصعود النزعة الاستهلاكية، تقدم الفلسفات الوجودية (مثل أعمال سارتر، كامو، وسيمون دي بوفوار) أدوات لفهم "القلق الوجودي". هي تدعونا لتحمل مسؤولية حريتنا وخلق المعنى الخاص بنا، بدلًا من استهلاكه جاهزًا.

2. العودة إلى "فن العيش": نشهد اليوم عودة قوية للفلسفات القديمة كـ "الرواقية" (Stoicism) كأدوات علاجية. في عالم لا يمكن التنبؤ به، تعلمنا الرواقية التمييز بين ما يمكننا التحكم به وما لا يمكننا، وتدربنا على "الصلابة العقلية" وقبول الواقع كخطوة أولى لتغييره. لم تعد الفلسفة مجرد تأمل، بل أصبحت "ممارسة يومية" لإدارة القلق وتحقيق السكينة (Ataraxia).

ثالثًا: الفلسفة كعقد اجتماعي (المشكلات المجتمعية والسياسية)

لا تنفصل أزمات الفرد عن أزمات المجتمع. وهنا تلعب "الفلسفة السياسية" و"الأخلاق الاجتماعية" دورًا محوريًا.

1. أزمة العدالة والديمقراطية: إن اتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية، وصعود الشعبوية، وتآكل المؤسسات الديمقراطية، كلها قضايا تقع في صلب الفلسفة السياسية.

أ‌- نظريات العدالة: تستمر أعمال جون راولز (John Rawls) حول "العدالة كإنصاف" في إلهام النقاشات حول كيفية بناء مجتمع يوازن بين الحرية والمساواة، وكيفية توزيع الثروة والموارد بشكل عادل.

ب‌- التسامح والعيش المشترك: في مواجهة الاستقطاب السياسي والطائفي، تعيد الفلسفة طرح أسئلة التعددية الثقافية، وحدود حرية التعبير، وأسس "العقد الاجتماعي" الذي يجمعنا على الرغم من اختلافاتنا.

2. الأزمة البيئية (أخلاقيات الكوكب): يشكّل تغير المناخ التحدي الأكبر لوجودنا. "الأخلاقيات البيئية" (Environmental Ethics) هي فرع فلسفي يتساءل عن علاقتنا بالعالم الطبيعي.

أ‌- هل البشر هم "أسياد" الطبيعة أم جزء منها؟

ب‌- ما هي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة؟

ت‌- هل للحيوانات والنظم البيئية حقوق؟ تدفعنا الفلسفة هنا لإعادة التفكير جذريًا في نماذجنا الاقتصادية القائمة على النمو اللامحدود، وتدعونا لتبني "أخلاقيات المسؤولية" تجاه الكوكب.

خاتمة: الفلسفة.. ضرورة لإعادة بناء المستقبل

إن المشكلات التي تواجه الإنسان والمجتمع اليوم ليست مجرد مشكلات تقنية أو اقتصادية يمكن حلها بـ "تطبيقات" أو "سياسات" معزولة. إنها في جذورها أزمات "معنى" و "قيمة" و "تفكير".

دور الفلسفة الحالي ليس تقديم إجابات جاهزة، بل هو "إبقاء السؤال حيًّا". إنها المنهج الذي يمنعنا من التكيّف السلبي مع الواقع، ويدفعنا لتخيّل "عوالم ممكنة" أخرى. هي التي تسلّحنا بالشجاعة لنطرح الأسئلة الأكثر إزعاجًا: لماذا الأمور على ما هي عليه؟ وهل يمكن أن تكون أفضل؟

في عالم يقدّس السرعة واليقين، تبدو الفلسفة، بتمهلها وشكها المنهجي، فعلًا راديكاليًا. إنها البوصلة التي نحتاجها لنبحر في تعقيدات القرن الحادي والعشرين، ليس فقط لننجو، بل لنعيش حياة إنسانية أكثر وعيًا، وعدالة، واكتمالًا. فالمجتمع الذي يتوقف عن التفلسف، هو مجتمع يتوقف عن التفكير في مستقبله.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد

في المثقف اليوم