أقلام فكرية
غالب المسعودي: تفكيك العلاقة بين الإبادة المعرفية وتواطؤ النخب
تُعَدّ الهيمنة الاستعمارية الجديدة ظاهرة معقدة تتجاوز السيطرة الاقتصادية والعسكرية التقليدية، لتتغلغل في أعماق البنية المعرفية والثقافية للمجتمعات المستهدفة. إنّ استقرار هذا الشكل من الهيمنة يقوم على شرطين أساسيين ومترابطين: التدمير المنهجي للأساس المعرفي للطرف المستعمَر، وتواطؤ النخب المحلية في تنفيذ الأجندات الفلسفية والأيديولوجية للقوة المهيمنة. هذه العملية تخلق نظام "قبول" داخلي يُلغي المقاومة ويُكرس التبعية.
من الاستعمار العسكري إلى النفوذ الأيديولوجي
ترتبط الهيمنة الإمبريالية ارتباطاً وجودياً بتطور الرأسمالية العالمية. مع اتساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، تطلبت حماية هذه المصالح آليات سيطرة جديدة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركات التحرر، تراجع الاستعمار العسكري القديم، وصعدت القوى الاستعمارية الجديدة، فانتقلت السيطرة من الاحتلال العسكري المباشر إلى نفوذ يُمارَس عبر آليات غير مباشرة. هذه الآليات تشمل دعم أنظمة حليفة لحماية المصالح الاقتصادية، وتأمين الموارد، والطاقة، والأسواق، وطرق التجارة، والقوى العاملة الرخيصة.
لا يعني هذا التحول غياب القوة، إذ استمرت القوى الإمبريالية في استخدام العمل العسكري المباشر وغير المباشر لتدعيم نفوذها وحماية الأنظمة المتحالفة معها. لكن، يكمن العنصر الأهم في هذا الاستقرار، هو خلق بنية هيكلية للتبعية. توفر نظرية التبعية الإطار الذي تُبنى عليه الهيمنة الجديدة، إذ تُبقي هذه الآليات الدول الطرفية في "فخ استخراجي جديد"، يخنُق استقلالها الذاتي ويقيّد دورها على المستوى الدولي، مما يضمن بقاءها مزوداً للمواد الخام ومستهلكاً للمنتجات المركزية. إنّ اتساع المصالح الرأسمالية هو القوة الدافعة المستمرة للسيطرة؛ تؤدي هذه السلسلة السببية إلى إدامة الهيمنة.
غرامشي ونظام الموافقة
إن الابتعاد عن العنف الصريح قدر الإمكان، والاعتماد على الأنظمة الحليفة، يعني أن استقرار الهيمنة يتطلب خلق شكل من أشكال الموافقة أو القبول الداخلي. وهنا يبرز دور الهيمنة الفلسفية والثقافية، كما حللها أنطونيو غرامشي. وفقاً لغرامشي، لا تقتصر الهيمنة على السيطرة القسرية (المجتمع السياسي)، بل تتجسد بعمق في المجتمع المدني، بما في ذلك المؤسسات الثقافية مثل التعليم والدين ووسائل الإعلام.
يتم هندَسة الموافقة في هذا الإطار بحيث لا تكون بالضرورة تأكيداً طوعياً لحالة الفرد، بل تتحقق في صورة انعدام المقاومة للسلطة التي تفرض خطابها عبر مؤسسات المجتمع المدني. هذه هي المساحة التي تُنفذ فيها الأجندات الفلسفية. لقد شيَّد مفكرون مثل إدوارد سعيد وفرانز فانون نظرية ما بعد الاستعمار بهدف تفكيك خطاب الهيمنة والمركزية الأوروبية، مركزين على نقد المركزية العقلية وخطاب الحضور الميتافيزيقي الغربي. يهدف هذا التفكيك إلى "خلخلة الذات" وإعادة صياغة العلاقة بين الذات المستعمَرة والآخر المهيمن. لكن حتى محاولات التفكيك الفلسفية يمكن أن تتحول إلى فخ، حيث يمكن أن تخدم في نهاية المطاف مركزية العقل الغربي وتكريس "ميتافيزيقا الحضور" الغربية إذا لم يتم الانطلاق من أساس معرفي مستقل. إن الإنسان الذي يُدمَّر أساسه المعرفي الصلب، لن يستطيع بناء مقاومة ثقافية أو سياسية مستقلة، ويصبح تحقيق "انعدام المقاومة" أمراً يسيراً.
الإبادة المعرفية واستراتيجيتها الشاملة
الإبادة المعرفية هي تدمير المعرفة وتشويهها وإلغاء صلاحية وجودها في الذاكرة الجمعية والتاريخية، وهي معركة مستدامة وممنهجة. وهي تتجسد في الاستعمار الثقافي الذي يفرض ثقافة ونسقاً معرفياً معيناً من قِبل قوى خارجية على المجتمعات المستعمَرة، مما يؤدي إلى تهميش المناهج التعليمية التي تعكس هوية المجتمع وثقافته وتدمير مصادره الثقافية التاريخية.
تعتمد استراتيجية الإبادة المعرفية على وجهين متضادين، ولكنهما متكاملان في الحرب المعرفية:
حصر المعرفة (التسييج): حيث يتم تضييق المجال المعرفي وتسييجه ليصبح حكراً على "نخبة مختارة" تابعة، وتحويل المعرفة إلى مجرد "مقولات أيديولوجية" لا يمكن تجاوزها.
إغراق الذاكرة (الفوضى): حيث يتم تضخيم المعارف وإغراق الذاكرة بالمعرفة الزائفة والمختلة، مما يؤدي إلى تشتيت الإدراك وإرباكه، وبالتالي يمنع العامة من بناء قاعدة معرفية صلبة للمقاومة.
يسعى هذا التكتيك المزدوج إلى ضمان العجز عن "الاستناد إلى أي قاعدة معرفية صلبة" أو الإفلات من المرجعية الأيديولوجية القسرية.
الآليات التفصيلية لتدمير البنية المعرفية
تُنفذ الإبادة المعرفية عبر آليات تفصيلية منظمة تستهدف تدمير البنية التحتية الفكرية:
تدمير آليات إنتاج المعرفة وتداولها: يتضمن ذلك تجريف المكتبات والمدارس، أو تجهيل الأفراد وإعاقة تفكيرهم النقدي، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين المعرفة الصحيحة والباطلة، وغياب القوانين المُنظِمة لعملية الصدق المعرفي.
عزل المعرفة عن الواقع الحي (التفريغ): يتم فصل المعرفة عن السياق الاجتماعي، مما ينتج "معرفة مُغترِبة ومُجرَّدة" لا يستطيع المجتمع استخدامها في فهم واقعه أو التأثير فيه، فتفقد قيمتها المعرفية.
تسيس المعرفة وعسكرتها: تتحول المعرفة إلى "أداة سياسية" للسيطرة على الأفراد وتوجيه سلوكهم، أو تُستخدَم في الصناعات العسكرية لخدمة أهداف أمنية ولتبرير الحروب والصراعات.
تشريح النخبة التابعة ونقد فانون
لم تكن النخبة في الدول المتحررة كتلة متجانسة تحافظ على ذاكرة الشعوب وهويتها، بل كانت غالباً "مُفكَّكة" وتتبادل الأدوار مع المجال الإعلامي والثقافي لخدمة الأجندات العليا. وجَّه فرانز فانون نقداً جوهرياً لهذه النخبة، محذراً من "انحراف البرجوازية الوطنية ومهادنتها للاستعمار الجديد" بعد نيل الاستقلال الشكلي. ويرى فانون أن هذه النخبة تخدع نفسها بظن إمكانية تطبيق المثل والمبادئ التي علَّمها إياها الغرب، بدلاً من البحث عن "مسالك جديدة أوجدتها ظروفها الخاصة". هذا الانحراف الوجودي يمنع خلق "إنسان جديد".
يتمثل الخطر الأكبر في ظهور نخب ذات ولاء خارجي، مثل النخب الفرنكوفونية أو الأمريكوفونية، التي قد يكون ولاؤها لثقافة ومصالح المستعمِر "أكبر، أوسع وأهول من ولائها للشعب والوطن". إن ما يُغري هذه النخب بالتخلي عن مجتمع ديمقراطي منتج والانغماس في نظام طغياني واستبدادي فاشل هو الانتفاع المادي والفساد والانتهازية. هذا الانتفاع المادي هو الثمن المدفوع لولائها الثقافي والفلسفي، مما يضمن استمرار النظام التبعي والفخ الاستخراجي.
النخبة كمنفذ للأجندات الفلسفية تحت رايات نبيلة
تضطلع النخب المتواطئة بدور حيوي في تسويق الأجندات الفلسفية الاستعمارية تحت غطاء "نبيل" (الذرائع النبيلة). فقد تواطأت هذه النخب والحكام على الشعوب بذريعة حماية المدنيين أو نشر الديمقراطية، بينما كانت المصالح الحقيقية هي النفط والغاز وضمان ازدهار الأوليكارجيات المالية الغربية.
تتحكم النخبة المتواطئة في التنظيم الإداري والنشاط الأكاديمي والجامعات، مما يمكنها من تحويل المعرفة إلى "أداة سياسية" لترسيخ مفاهيم وأيديولوجيات تخدم برامج القوى المهيمنة. وبفعل ولائها الخارجي، تتولى النخبة مهمة "تعقيم وتطهير" المعرفة من أي أفكار نقدية أو ثورية، مما يضمن أن الخطاب المحلي لا يتجاوز الحدود التي رسمتها البرنامج الفلسفي الغربي. إن نقد فانون للبرجوازية الوطنية يفسر كيف يتم تحقيق "انعدام المقاومة" (مفهوم غرامشي)، حيث تستغل النخبة الهيمنة الخارجية بدلاً من مقاومتها، مما يمنح الشرعية الداخلية للنظام التبعي. كما تلعب النخبة دوراً في المجال الإعلامي، مما يمكنها من تشكيل إدراك الآخرين وتوجيه الفهم (كما بيَّن إدوارد سعيد)، وهذا يغذي فوضى المعرفة الزائفة ويضمن نجاح تسويق الروايات المضللة.
الذات والهيمنة الفلسفية
الهدف النهائي للهيمنة الفلسفية هو السيطرة على العقول وتشكيل الإدراك، ويتم ذلك عبر تقنين المعرفة المعيارية في الذاكرة الجمعية لتغدو "المعرفة الوحيدة والمُسلَّم بها". هذا التقنين يستند إلى "مركزية العقل" الغربي و"ميتافيزيقا الحضور" المرتبطة به، حيث يتم توظيف الخطاب (الكلام والصوت) لتكريس حضور الذات الغربية وإقصاء الذات المستعمَرة.
يضمن هذا تدمير الأساس المعرفي تجريد المقاومة من أساسها الفلسفي والمنطقي. عندما تكون الهوية ممزقة ثقافياً وغارقة في الفوضى، يصبح التحرر مجرد "شعارات طوباوية" لا يمكن ترجمتها إلى عمل سياسي منظم. لذا، شدد غرامشي على أن الثورة تخاطر بتقويض نفسها دون "التحول الواعي"، وأن الطريق إلى التحرر يتطلب "مشاركة فعالة ضد نظام الهيمنة". إن استقرار الهيمنة الاستعمارية الجديدة هو نتاج التقاء عاملين: الجريمة المعرفية (تدمير القاعدة الفكرية) والجريمة الأخلاقية (تواطؤ النخبة التي تتولى التنفيذ والتعقيم).
يستنتج من هذا أن الهيمنة الاستعمارية الجديدة هي منظومة قسرية ثقافياً ومعرفياً، لا يمكنها أن تستقر بالسيطرة الاقتصادية (نظرية التبعية) وحدها. إن التدمير الممنهج للأساس المعرفي يخلق الفراغ اللازم لزرع الأيديولوجيا المستوردة والمُعقَّمة، بينما يضمن تواطؤ النخبة (البرجوازية الوطنية) الوسيط المحلي اللازم لتوفير الغطاء الشرعي لهذا النظام التبعي وتأبيد الفخ الاستخراجي.
الطريق إلى التحرر يتطلب "تبادلاً حراً للأفكار" و"ديمقراطية تشاركية" لمواجهة نظام الهيمنة القائم على التلقين والنمطية. كما يتطلب ذلك الابتعاد عن النخب الانتهازية والاعتماد على النخب المحلية الحقيقية التي تنطلق من الذات، مستلهمة نماذج الكتلة الشعبية التي نجحت في قهر الاستعمار واستعادة السيادة الحضارية والاقتصادية والسياسية.
***
غالب المسعودي
.......................
المراجع
revsoc.me - الهيمنة الاستعمارية والعولمة المسلحة - بوابة الاشتراكي
alsifr.org - نظرية تبعية جديدة؟ | صفر - موقع 0
tadween.alhadath.ps - أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية... ما هي وكيف تعمل؟ - تدوين - صحيفة الحدث
sufirfan.org - فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة - Sufirfan
ahewar.org - حمدي سيد محمد محمود - الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة (“الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة والهوية في وجه محاولات ...”)






