أقلام فكرية

زهير الخويلدي: حقوق الإنسان والمواطنة

بين الأسس الفلسفية والتحولات التاريخية.. مقاربة عمومية

مقدمة: تشكل فلسفة حقوق الإنسان والمواطنة محورًا أساسيًا في الفكر الإنساني، حيث تعكس تطور الوعي البشري تجاه الكرامة، الحرية، والانتماء الاجتماعي. حقوق الإنسان، كمفهوم فلسفي، ترتبط بالحقوق الأساسية التي يمتلكها كل فرد بمجرد كونه إنسانًا، مستمدة من مبادئ أخلاقية وقانونية تعبر عن الطبيعة الإنسانية المشتركة. أما المواطنة، فهي مفهوم يرتبط بالانتماء إلى دولة أو مجتمع سياسي، يمنح الأفراد حقوقًا وواجبات محددة ضمن إطار قانوني وثقافي. في هذه الدراسة، سنقارب هذين المفهومين بطريقة عمومية، مستعرضين أصولهما التاريخية من الحضارات القديمة إلى العصور الحديثة، ثم نستعرض أهميتهما المعاصرة في ظل التحديات العالمية مثل العولمة، الهجرات، والنزاعات. تعتمد الدراسة على تحليل فلسفي يبرز التقاطعات بينهما، مع الاستناد إلى مصادر تاريخية وفلسفية متنوعة، لنكشف كيف أن هذين المفهومين يعززان بعضهما البعض في بناء مجتمعات عادلة.

يُعرف مفهوم حقوق الإنسان فلسفيًا كضمانات أخلاقية أساسية يمتلكها الأفراد بصرف النظر عن جنسهم، عرقهم، أو انتمائهم، وهي غير قابلة للتجزئة أو التنازل.   أما المواطنة، فهي تطور تاريخي يعبر عن العلاقة بين الفرد والدولة، منذ اليونان القديمة حيث كانت تعني المشاركة في الحياة السياسية.    هذه المقاربة العمومية تهدف إلى فهم كيفية تكامل هذين المفهومين في مواجهة التحديات المعاصرة.

الأصول التاريخية لحقوق الإنسان

تعود أصول فلسفة حقوق الإنسان إلى جذور عميقة في الحضارات القديمة، لكنها بلورت في العصور الحديثة. في الحضارة اليونانية، طرح أفلاطون وأرسطو أفكارًا حول العدالة والحقوق الطبيعية، حيث اعتبر أرسطو الإنسان "حيوانًا سياسيًا" يحتاج إلى مجتمع عادل لتحقيق كماله.  أما في الرومانية، فقد طور سيسرون مفهوم "القانون الطبيعي" الذي يفوق القوانين البشرية، ممهدًا لفكرة حقوق متأصلة في الطبيعة الإنسانية.

في العصور الوسطى، أثرت الأديان السماوية، خاصة الإسلام والمسيحية، في تطوير هذه الفلسفة. في الإسلام، يُعتبر القرآن أساسًا لحقوق الإنسان، حيث يؤكد على الكرامة الإنسانية كما في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"، مما يشمل حقوق الحياة، الحرية، والعدالة.

 كذلك، في الفكر المسيحي، أكد توما الأكويني على القانون الإلهي كمصدر للحقوق، متكاملًا مع القانون الطبيعي.مع عصر النهضة والتنوير، بلورت الفلسفة الحديثة لحقوق الإنسان. جون لوك اعتبر الحقوق الطبيعية (الحياة، الحرية، الملكية) أساسًا للعقد الاجتماعي، حيث تكون الدولة حارسة لهذه الحقوق

جان جاك روسو طور فكرة الإرادة العامة، مؤكدًا أن الحقوق تنبع من الشعب. الثورة الفرنسية عام 1789 أنتجت إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي جمع بين الحقوق الطبيعية والمدنية، معلنًا أن "يولد الناس أحرارًا ومتساوين في الحقوق".  في القرن العشرين، بعد الحربين العالميتين، أصبحت حقوق الإنسان إطارًا دوليًا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، الذي يجسد فلسفة الكرامة الإنسانية كأساس للسلام العالمي.

هذا التطور يعكس انتقالًا من الحقوق الفردية إلى الحقوق الجماعية، مع التركيز على الشمولية الأخلاقية.

الأصول التاريخية للمواطنة

أما فلسفة المواطنة، فتعود إلى اليونان القديمة، حيث كانت تعني المشاركة النشطة في شؤون المدينة (البوليس). أرسطو في "السياسة" يعرف المواطن كمن يشارك في الحكم والمحاكم، لكن هذا كان مقتصرًا على الرجال الأحرار، مستبعدًا النساء والعبيد.

 في روما، تطورت المواطنة إلى مفهوم قانوني أوسع، حيث منحت الجنسية الرومانية حقوقًا مدنية مثل التصويت والملكية، وامتدت تدريجيًا إلى الشعوب المفتوحة.

في العصور الوسطى، تراجعت المواطنة أمام الولاءات الإقطاعية والدينية، لكن عصر النهضة أعاد إحياءها مع مونتسكيو الذي أكد على دور المواطن في الجمهورية، مشددًا على التوازن بين الحرية والمجتمع.

الثورة الفرنسية بلورت المواطنة الحديثة كانتماء وطني، حيث أصبحت تعني المساواة أمام القانون والمشاركة السياسية.

في القرن التاسع عشر، مع الثورة الصناعية، توسعت المواطنة لتشمل الحقوق الاجتماعية كالتعليم والرعاية، كما في نظرية تي. إتش. مارشال الذي قسمها إلى مدنية، سياسية، واجتماعية.

 في العالم الإسلامي، ارتبطت المواطنة بالأمة، حيث أكدت الشريعة على المساواة والعدالة، كما في عهد المدينة النبوية الذي جمع بين المسلمين وغيرهم في ميثاق مشترك.

 هذا التطور يعكس انتقال المواطنة من مفهوم نخبوي إلى شمولي.

التقاطعات والمقارنات بين حقوق الإنسان والمواطنة

يتداخل مفهوما حقوق الإنسان والمواطنة تداخلًا كبيرًا، حيث يُعتبر كلاهما وجهين لعملة واحدة. حقوق الإنسان عامة وكونية، تنطبق على الجميع دون تمييز، بينما المواطنة خاصة بالانتماء إلى دولة، لكنها تعزز حقوق الإنسان من خلال الإطار القانوني.

 على سبيل المثال، الإعلان الفرنسي جمع بين "حقوق الإنسان" كحقوق طبيعية و"حقوق المواطن" كحقوق مدنية

في المقارنة، تكون حقوق الإنسان أساسًا فلسفيًا للمواطنة، حيث تضمن المواطنة تطبيق هذه الحقوق عمليًا. ومع ذلك، قد يحدث تعارض، كما في حالات المهاجرين الذين يتمتعون بحقوق إنسانية لكنهم يفتقرون إلى حقوق مواطنة كاملة.

 في السياق الإسلامي، تتقاطع المواطنة مع حقوق الإنسان من خلال مبادئ الرحمة والعدالة، كما في الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الذي يؤكد على التوافق مع الإعلان العالمي.  هذه التقاطعات تعزز الفلسفة الكونية للحقوق مع الخصوصية الثقافية.

الأهمية المعاصرة لحقوق الإنسان والمواطنة

في العصر الحديث، تكتسب حقوق الإنسان والمواطنة أهمية بالغة في مواجهة التحديات العالمية. حقوق الإنسان تحمي الأفراد من الانتهاكات، وتعزز الاستقرار الاجتماعي من خلال ضمان الحريات الأساسية مثل التعبير والتعليم.

 المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة تلعب دورًا حاسمًا في حمايتها، خاصة في النزاعات والأزمات.  أما المواطنة، فتعزز الاندماج الاجتماعي والبناء الديمقراطي، حيث تشجع على المشاركة المدنية والولاء للدولة. في ظل العولمة، تتطور المواطنة إلى "مواطنة عالمية"، تجمع بين الانتماء المحلي والكوني، كما في الاتحاد الأوروبي.   كذلك، تساهم في تعزيز حقوق الإنسان من خلال التعليم والقوانين، مما يضمن الاستقرار والتقدم.   ومع ذلك، تواجه تحديات مثل التمييز والنزعة القومية، مما يتطلب تعزيز الوعي الفلسفي بهذين المفهومين.

خاتمة

في الختام، تمثل فلسفة حقوق الإنسان والمواطنة تطورًا تاريخيًا يجسد سعي الإنسان نحو العدالة والكرامة. من الأصول القديمة إلى الأهمية المعاصرة، يتكاملان ليبنيا مجتمعات مستدامة. يتطلب الحفاظ عليهما تعزيز التعليم والحوار الدولي، ليظلا أداة للسلام في عالم متغير. هذه المقاربة العمومية تؤكد أن مستقبل الإنسانية يعتمد على توازن بين الكونية والخصوصية في هذين المفهومين.

***

د. زهير الخويلدي .. كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم