أقلام فكرية
غالب المسعودي: جدلية التفاهة.. نقد مادي للثقافة والعلم في عصر الرأسمالية المعرفية
البنية التحتية الرقمية كقدر تاريخي
في خضم التحولات الجيولوجية التي تشهدها البنية المعرفية للمجتمعات المعاصرة، يبرز سؤال جوهري حول طبيعة "النماذج التافهة" التي باتت تتصدر المشهد، وتحديداً في مجالي الثقافة والعلم. إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ما نراه هو مجرد تعبير مرضي عابر أم سلوكيات بنيوية متجذرة؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال تحليل سطحي للظواهر الفردية، بل يستدعي الأمر "حفرية فلسفية" عميقة وتاريخية؛ لأننا لا نقف أمام مجرد انحدار ذوقي أو فوضى معرفية عابرة، بل نقف أمام تحول جذري في نمط الإنتاج، حيث انتقلت الرأسمالية من مرحلتها الصناعية الثقيلة إلى مرحلة "الرأسمالية المعرفية"."
تنطلق فرضيتنا الأساسية من أن البنية التحتية للعصر الرقمي -المتمثلة في الخوارزميات، ومراكز البيانات، واقتصاديات المنصات- هي التي تفرز حتماً "بنية فوقية" ثقافية وعلمية تتسم بالتفاهة، والسطحية، والمحاكاة الزائفة. إن هيمنة "التافه" ليست خطأً تقنياً في النظام، بل هي شرط ضروري لعمله بكفاءة؛ ففي اقتصاد يقوم على استخلاص "القيمة الزائدة" من الانتباه البشري، يصبح العمق، والتعقيد، والجدل العلمي الرصين عوائق أمام سرعة دوران رأس المال.
وفقاً للمادية التاريخية الكلاسيكية لماركس، فإن "نمط إنتاج الحياة المادية يشترط عملية بناء الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عامة". ففي القرن التاسع عشر، تمثلت قوى الإنتاج في الآلة البخارية والمصنع، مما أنتج ثقافة الطبقة العاملة والبرجوازية الصناعية. أما اليوم، فقد تحولت قوى الإنتاج جذرياً لتصبح "رقمية". تتكون البنية التحتية الجديدة من شبكات الألياف الضوئية، والخوادم السحابية، والذكاء الاصطناعي، والأهم من ذلك: "البيانات الضخمة".
هذا التحول في "القاعدة" المادية يفرض تحولاً موازياً في "البنية الفوقية". فالخوارزميات التي تحكم منصات التواصل الاجتماعي ليست أدوات محايدة، بل هي تجسيد لأيديولوجية الربح وتراكم رأس المال، صُممت لهدف واحد: تعظيم "وقت البقاء على الجهاز" لزيادة التعرض للإعلانات واستخلاص البيانات السلوكية.
المصنع الاجتماعي والرأسمالية المعرفية
لقد توسع مفهوم "العمل" في عصر الرأسمالية المعرفية ليشمل الحياة الاجتماعية برمتها. يشير مفهوم "المصنع الاجتماعي" إلى أن الإنتاج لم يعد محصوراً في مكان العمل التقليدي، بل امتد ليشمل أوقات الفراغ والعلاقات الشخصية. عندما يقوم المستخدم بكتابة تعليق، أو مشاركة صورة، أو حتى التوقف لمشاهدة فيديو، فإنه يمارس -فعلياً- عملاً غير مأجور لصالح المنصة، حيث يولد "البيانات الخام" التي تُعد وقود هذا الاقتصاد الجديد.
اقتصاد الانتباه وندرة العمق
في ظل وفرة المعلومات، يصبح "الانتباه" هو السلعة النادرة. يعمل اقتصاد الانتباه وفق منطق الاستحواذ اللحظي؛ فالمحتوى العميق يتطلب استثماراً زمنياً وجهداً ذهنياً، وهو ما يتعارض مع سرعة التدفق المطلوبة في المنصات. لذلك، يتم "تسطيح" المحتوى ليكون قابلاً للاستهلاك الفوري دون تمحيص. يؤدي هذا إلى ما يمكن تسميته بـ "الإفقار الممنهج للمعنى"، حيث يتم تجريد المحتوى العلمي والثقافي من سياقه التاريخي والجدلي، ويُقدم كـ "كبسولات" معلوماتية معزولة، مما يحول المعرفة إلى مجرد "بيانات" فاقدة للروح.
البنية الفوقية للتفاهة: مقاربة نقدية ثقافية
لعل أفضل توصيف لهذه الحالة هو ما صاغه الفيلسوف الكندي (آلان دونو) في كتابه "نظام التفاهة". يرى دونو أننا نعيش في مرحلة تاريخية لم تعد فيها السلطة بيد الأكفاء ولا بيد النخبة الأرستقراطية، بل بيد "التافهين" أو "متوسطي الحال". و"التفاهة" هنا لا تعني الغباء، بل تعني "الامتثال" للمعايير القياسية والابتعاد عن أي خروج إبداعي عن المألوف.
تشرح أطروحة دونو كيف أن المؤسسات الحديثة تفضل الأشخاص الذين ينجزون مهامهم دون التفكير في جوهرها أو غايتها. وفي وسائل التواصل، يتجسد هذا في "المؤثر" (Influencer) الذي يتقن أدوات المنصة وشكلياتها، لكنه يفتقر إلى أي عمق معرفي أو قيمي حقيقي. هذا النظام "الميديا قراطي" (حكم الرداءة) يقصي التفكير النقدي الجذري بشكل منهجي لأنه "مزعج" و"غير فعال" اقتصادياً؛ فالمحتوى الذي يتطلب تفكيراً عميقاً يعتبر "ضوضاء" في نظام مصمم للسلاسة، حيث يتم استبدال القضايا الجوهرية بـ "حلول سطحية" وشعارات شعبوية تداعب المشاعر بدلاً من العقل.
وفي عالم المحاكاة، تفقد العلامة ارتباطها بالواقع. فـ"العلم" على وسائل التواصل ليس تمثيلاً للعلم الحقيقي، بل هو "محاكاة" لجماليات العلم (معطف أبيض، أنابيب اختبار ملونة، موسيقى تشويقية) دون جوهر. أصبحت الصورة الرقمية (الخريطة) هي التي تحدد الواقع (الإقليم)؛ فالناس يعدلون أجسادهم وحياتهم لتشبه "فلاتر" سناب شات وإنستغرام. هذا الانفصال عن الواقع المادي يخلق بيئة خصبة لانتشار النماذج التافهة، حيث لا يوجد "واقع" صلب يمكن الاستناد إليه لدحض هذه التفاهة.
تسليع العلم والأزمة المعرفية
تحت ضغط "اقتصاد الانتباه"، يضطر العلماء والمبسطون العلميون إلى تحويل المعرفة إلى ترفيه اختزال النظريات المعقدة إلى "حقائق مدهشة" منزوع السياق، ويتم التضحية بـ "الشك العلمي" و"المنهجية" لصالح "اليقين" و"الإثارة".
وهنا يظهر "مؤثرو العلوم" الذين يتقمصون دور الخبراء، مستخدمين لغة شبه علمية (مثل: "توازن الطاقة"، "الديتوكس"، "الترددات") لبيع أوهام ومنتجات تجارية. وأمام جمهور تم "تسطيح" وعيه النقدي، تتلاشى القدرة على التمييز بين العالِم الحقيقي والمحاكي.
مجتمع الاحتراق النفسي وفقدان السيادة على الذات
لم يعد النظام بحاجة لإجبارنا على العمل؛ لقد استبطنا نحن منطق الرأسمالية، وأصبحنا نستغل أنفسنا طواعية. كل مستخدم لوسائل التواصل هو "رائد أعمال ذاتي" يسعى لتسويق نفسه. هذا الضغط المستمر للظهور والإنجاز يؤدي إلى ما يسميه بيونغ-تشول هان "مجتمع الاحتراق النفسي". يطالب النظام بالشفافية المطلقة؛ حيث يجب أن نشارك مشاعرنا، صورنا، ولحظاتنا الخاصة، مما يجعل النفس البشرية قابلة للقياس، والتوقع، والتحكم الخوارزمي. وتأتي التفاهة هنا كـ "مخدر" ضروري لتهدئة الأعصاب المحترقة من فرط التعرض والشفافية.
يقدم (برنارد ستيغلر) التحليل المادي الأكثر دقة لهذه الحالة؛ فمثلما أدى التصنيع قديماً إلى "برلتة" العامل (تحويله إلى بروليتاريا فاقدة للمهارة)، تؤدي التكنولوجيا الرقمية اليوم إلى "برلتة الحساسية" والشعور. نحن نفقد المعرفة الحياتية والقدرة على العيش والتفكير بشكل مستقل. حلت الذاكرة الخارجية (الإنترنت) محل الذاكرة الداخلية، وحلت الخوارزميات محل الذوق الشخصي، فلم نعد نعرف كيف نختار فيلماً أو وجبة أو شريكاً دون استشارة التطبيق.
يؤدي هذا الاعتماد الكلي على الآلة إلى "بؤس رمزي" وفقر في القدرة على إنتاج الرموز والمعاني. يصبح المستخدم مجرد "مستهلك" للرموز التي تنتجها الصناعة الثقافية، وهذا هو "المرض" الحقيقي: عجز الذات عن التفرد والإنتاج الروحي.
خاتمة: نحو استعادة المعنى
إن "النماذج التافهة" ليست مجرد محتوى رديء؛ إنها السلاح الأيديولوجي للرأسمالية المتأخرة، والوسيلة التي يتم بها تدجين الوعي، وتفتيت التضامن الاجتماعي، وتحويل المواطنين إلى مستهلكين سلبيين للصور. إن مواجهة هذه التفاهة لا تكون فقط بـ "نشر الوعي"، بل بنضال سياسي وتقني لاستعادة ملكية "وسائل الإنتاج التواصلي"، وإعادة تصميم البنية التحتية الرقمية لتخدم "القيمة الاستعمالية" للإنسان، لا "القيمة التبادلية" لرأس المال. إنها معركة من أجل "إعادة سحر العالم" بالعلم الحقيقي والثقافة الحية، ضد "تصحر المعنى" الذي تفرضه الخوارزميات.
***
غالب المسعودي
........................
قائمة المراجع والمصادر المقترحة
Deneault, Alain. Mediocracy: The Politics of the Extreme Centre. (الترجمة العربية: "نظام التفاهة"، دار سؤال للنشر).
Han, Byung-Chul. The Burnout Society. (الترجمة العربية: "مجتمع الاحتراق النفسي"، دار معنى).
Stiegler, Bernard. (أعمال متفرقة حول "برلتة الحساسية" والتكنولوجيا).
Marx, Karl. Capital: A Critique of Political Economy. (رأس المال).
ثانياً: الأوراق البحثية والمقالات (References):
Busk, L. A., & Portella, E. (n.d.). "The Contradiction between Use-Value and Exchange-Value". Scholars Junction, Mississippi State University.
Columbia Law Review. (2019). "Valuing Social Data". Retrieved from columbialawreview.org.
EBSCO Research Starters. "Marx and Historical Materialism".
IDEALS (Illinois Digital Environment for Access to Learning and Scholarship). "The Power of Knowledge, Objectified: Immaterial Labor, Cognitive Capitalism, and Academic Librarianship".
Liberation School. "The base-superstructure: A model for analysis and action".






