أقلام فكرية
إبراهيم أبو عواد: إسهامات فلاسفة الغرب في علم المنطق

عِلْمُ المَنْطِقِ هُوَ عِلْمٌ يَبْحَثُ في القواعدِ والأُسُسِ التي تُنظِّم التفكيرَ الصحيح، وتُميِّز بَيْنَ الاستدلالِ السليمِ والاستدلالِ الخاطئ. وَهَذا العِلْمُ آلةٌ قانونية تَحْمِي الذِّهْنَ مِنَ الخَطأ في الفِكْرِ.
يُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ اليوناني أَرِسْطُو طاليس (384 ق. م - 322 ق.م) مُؤسِّسَ عِلْمِ المَنْطِقِ. وَهُوَ أوَّلُ فَيلسوف قامَ بتحليل العملية التي بِمُوجِبها يُمْكِن مَنطقيًّا استنتاج أنَّ أيَّة قضية مِنَ المُمْكِن أن تكون صحيحة استنادًا إلى صِحَّة قضايا أُخْرَى، وقد كان اعتقادُه أنَّ عملية الاستدلال المَنطقي تَقُوم عَلى أساس شكل من أشكال البُرهان سَمَّاه القِياس. وفي حالة القِياس، يُمْكِن البَرْهَنَة أو الاستدلال مَنطقيًّا على صِحَّةِ قضية مُعيَّنة، إذا كانت هُناك قَضِيَّتَان أُخْرَيَان صحيحتان.
والفَيلسوفُ الإيطالي توما الأكويني (1225 - 1274) تَمَسَّكَ بِمَنْطِقِ أَرِسْطُو، واتَّخَذَ مِنَ المَنهجِ الأَرِسْطِيِّ أساسًا لأبحاثِه، فَبَدَأ أوَّلًا بِتَحديدِ المُشكلة، ثُمَّ حَصْر أوْجُهِ الخِلاف فِيها، باستعراض شَتَّى المُشكلات والشُّكوك التي تُثَار حَوْلَها، والعمل على الإجابة عنها بالأدلة المَنْطِقِيَّة المُقْنِعَة. وكانَ دَوْرُهُ مُهِمًّا مِنْ ناحيةِ الشَّرْحِ والدَّمْجِ بَيْنَ الفلسفةِ الأَرِسْطِيَّةِ والعَقيدةِ المَسِيحِيَّةِ.
والفَيلسوفُ الألماني جوتلوب فريجه (1848- 1925) يُعَدُّ أشهرَ مَن اهْتَمَّ بالفلسفةِ التَّحليليةِ، وَمَنْطِقِ الرِّياضياتِ الحديثة. وَهُوَ أحَدُ مُؤسِّسي المَنْطِقِ الحديث، وأحد أكبر فلاسفة المَنْطِقِ بَعْدَ أَرِسْطُو. وقد ابتكرَ فريجه لُغةً اصطناعية بواسطة الرموز المَنْطِقِيَّة، وساهمَ في تطوير جُزْء كبير من أبحاث المَنْطِقِ الرِّياضي، وكانَ مِنْ دُعَاةِ مَا يُعْرَف بالمَذهَبِ المَنْطِقِيِّ، وَهُوَ اتِّجاه يَدْعُو إلى رَدِّ التَّصَوُّراتِ الرِّياضيَّة الأساسيَّة إلى تَصَوُّرَاتٍ مَنْطِقِيَّة خالصة.
والفَيلسوفُ الألماني إدموند هُوسِّرل (1859- 1938) طَوَّرَ عِلْمَ المَنْطِقِ، وساهمَ في كَشْفِ الجَوانبِ المَعْرفيةِ والفَلسفيةِ للمَنْطِقِ. وَنَفَى أنْ تَكُون العَلاقاتُ المَنْطِقِيَّةُ خاضعةً للتأثيراتِ النَّفْسِيَّة، واعتبرَ العَلاقاتِ المَنْطِقِيَّة تَنْتمي إلى عَالَمٍ خاص (المَاهِيَّات) المُستقلة عَن العَقْلِ البَشَرِيِّ. وهذه المَاهِيَّاتُ بِمَثابةِ حقائق ثابتة تَجْعَل الأفرادَ يَتَّفقون حَوْلَها، فَيُصْدِرُون أحكامَهم وقَرَاراتهم.
والفَيلسوفُ الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد (1861- 1947) ساعدَ في نقلِ المَنْطِقِ مِنْ كَوْنِهِ فَرْعًا فَلسفيًّا إلى عِلْمٍ دقيق قائم على الرُّموز والقواعد، مِثْل عِلْم الجَبْر، وَساهمَ في بِناءِ الرِّياضيات انطلاقًا مِنْ مَبادئ مَنْطِقِيَّة بَحْتَة، وَتَوحيدِ المَنْطِقِ والرِّياضياتِ في نِظامٍ واحد قائم على الرُّموزِ والقواعدِ الدقيقة، مِمَّا أدَّى إلى تأسيسِ المَنْطِقِ الرَّمزي.
والفَيلسوفُ الإنجليزي بِرتراند راسل (1872- 1970) قَدَّمَ أعظمَ إسهاماته للفلسفة والرياضيات في مَطْلَعِ القَرْنِ العِشرين، وأرادَ أنْ يَسْتمد جميعَ الرِّياضيات مِنَ المَنْطِق، وبذلك أرساها على أساسٍ متين، وسعى إلى إظهار أنَّ جميع الرياضيات البَحْتَة تَتَوَالَد مِنْ مُسلَّمات مَنطقية تمامًا، وأنَّها لا تَسْتخدم سِوى المَفاهيم التي يُمْكِن تعريفها بِمُصطلحات مَنطقية بَحْتَة. وَرَغْمَ أنَّ أفكاره نُقِّحَتْ وطُوِّرَتْ على أيدي علماء الرياضيات مِنْ بَعْدِه، إلا أنَّ أفكاره كانتْ المُنْطَلَقَ لكثير من الإنجازات الحديثة في عِلْمِ المَنْطِقِ وقَواعدِ الرِّياضيات.
والفَيلسوفُ الألماني موريس شليك (1882 - 1936) هُوَ مُؤسِّس الوَضْعِيَّةِ المَنْطِقِيَّة، وَتُعْرَف أيضًا بالتَّجْريبية الوَضْعانية أو الوَضْعانية الجديدة، وهي حركة فلسفية ظهرتْ في النمسا وألمانيا في العَقْد الثاني مِنَ القرن العِشرين. وَتُعنَى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العِلْمِيَّة، حيث تُؤكِّد أن المقولات المِيتافيزيقيَّة، أو الدِّينيَّة، أو القِيَمِيَّة، فارغة من أي معنى إدراكي، بالتالي، لا تَعْدُو عن كَوْنها تعبيرًا عن مشاعر أوْ رَغَبَات. وَوَحْدَها المَقُولات الرِّياضية المنطقية والطبيعية هي ذات معنى مُحَدَّد. ومِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الوَضْعِيَّة المَنْطِقِيَّة، فإنَّ كُلَّ المَقولات ذات المَعْنى يُمْكِن تقسيمُها إلى صِنْفَيْن: الأول - يَتَضَمَّن مَقولات قد تكون صحيحة أو خاطئة اعتمادًا على أشكالها المَنْطقية أوْ مَعْناها (تُسمَّى هذه المَقولات تَحْلِيلِيَّة قَبْلِيَّة)، والثاني - يَتَضَمَّن مَقولات يُمْكِن التَّحَقُّق مِنْ صِحَّتها أوْ خَطَئِها فقط مِنْ خِلال التَّجْرِبَة (تُسمَّى تَركيبية بَعْدِيَّة).
والفَيلسوفُ النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889- 1951) حَصَرَ وظيفةَ الفلسفة في تحليل اللغة فقط، ورأى أنَّ اللغة تَخْضَع لِجُملة مِن القواعد المنطقية، وأنَّ اللغة إذا صِيغَتْ بنظام منطقي كامل، فَمِنَ المُمْكِنِ تَجَنُّبُ الوُقوعِ في غُموضِ التَّعبيرِ والخَلْطِ والإبهامِ، وأنَّ مشكلة الفلسفة ناتجة عن سُوء فهم مَنْطِق اللغة. وَاعْتَبَرَ أنَّ المَنْطِقَ يُفْهَمُ باعتباره البُنْيَة المُشتركة بَيْنَ اللغةِ والعَالَمِ، وأنَّ العَالَمَ يَتَكَوَّن مِنْ وقائع، وَلَيْسَ أشياء، وهذه الوقائعُ يُمْكِن تحليلُها مَنْطِقِيًّا، وبشكلٍ عام، إنَّ تحليلَ اللغةِ والمَنْطِقِ يَتِمُّ مِنْ خِلال البُنْيَةِ المَنطقيةِ للعَالَمِ.
والفَيلسوفُ الألماني رودولف كارناب (1891- 1970) يُعتبَر أحد أبرز زُعماء الفلسفة التجريبية المنطقية أو الوَضْعِيَّة المنطقية. وَيُمْكِن تَمْييز مَرْحَلَتَيْن أسَاسِيَّتَيْن في تَطُّورِ فِكْرِه في طبيعة المَنهج المَنطقي: الأُولَى - هِيَ مَرحلة الاهتمام بالبِناء اللفظي، حَيْثُ الاهتمام بالبناء اللفظي المَنطقي لِلُغَةِ العِلْمِ، والثانية - هِيَ مَرحلة الاهتمام بالمَدلول اللفظي، حَيْثُ يَهْتَمُّ مَنْطِقُ لُغَةِ العِلْمِ بالمَعنى والمَدلول.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن