أقلام حرة
مرتضى السلامي: حين نُخطئ تشخيص الداء

عن أسباب التخلّف وجراح الأوطان
في ليالينا الطويلة، حين نجلسُ بصمتٍ نتأملُ حالنا وحال أوطاننا، يطرقُ بابَ الروحِ سؤالٌ مرير: لماذا وصلنا إلى ما نحنُ فيه؟ لماذا تعثرت خُطانا، وتأخرنا عن ركب الحضارة والنور، بينما انطلق الآخرون؟ إنه سؤالٌ موجع، كالجرحِ المفتوحِ في خاصرةِ الوجود، نبحثُ لهُ عن جوابٍ يريحُ القلب، أو بلسمٍ يهدئُ من لوعته.
وفي رحلة البحث عن هذا الجواب، نجدُ أنفسنا أمام طريقين. طريقٌ سهلٌ، قديم، ومُريحٌ للوهلة الأولى، يقولُ لنا إن سبب تخلفنا هو ابتعادنا عن الدين، وكثرةُ ذنوبنا، وتقصيرنا في اتباعِ ما قالهُ الأجداد. إنه جوابٌ يُلقي باللومِ على ضمائرنا الفردية، ويشعرنا بالذنب، لكنه في الوقت ذاته يُعفينا من عناء البحثِ عن الأسباب الحقيقية، الأعمق والأكثر تعقيداً.
أما الطريقُ الثاني، فهو طريقُ الشجعان، طريقُ من يجرؤ على النظرِ في وجه الحقيقة، مهما كانت قاسية. هذا هو الطريق الذي يدعونا إليه المفكر عبد الجبار الرفاعي ببصيرةٍ ثاقبةٍ وشجاعةٍ نادرة، حين يضعُ يدهُ على أصل الداء في كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد"، قائلاً:
"أدواتُ النظر ومناهج الفهم القديمة للدين ونصوصه تفضي إلى ربط كلّ واقعةٍ في حياة الناس بالدين... وينتهي هذا الفهم إلى تعطيل الأسباب الطبيعية والبشرية المتنوّعة. فمثلاً يخضع تفسير تخلّف المجتمعات الإسلامية، لدى أكثر كتاب الجماعات الدينية والخطباء والوعاظ، إلى عدم تمسكها بما قاله السلف... مع أن تقدم وتخلّف المجتمعات بالمعنى الاقتصادي والثقافي والسياسي يعود لأسباب دنيوية مختلفة... سوء أحوال الناس المعيشية في الدنيا، أفراداً ومجتمعات، لا يعود لكثرة الذنوب بالمعنى الديني، ولا يعود لأسباب غيبية، بل ينشأ من الجهل، والفقر، والمرض، والاستبداد، والظلم." (الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص ١٠٨ - ١٠٩).
كم هي دقيقةٌ وموجعةٌ هذه الكلمات! إنها دعوةٌ لأن نكفَّ عن تعليقِ فشلنا في هذه الدنيا على شماعةِ السماء، وأن نبحثَ عن العللِ الحقيقيةِ هنا، على هذه الأرض التي نعيشُ فوقها. إنها دعوةٌ لنعترفَ بأن المجتمعاتِ لا تتقدمُ أو تتأخرُ بنسبةِ تدين أهلها أو ابتعادهم عنه، فكم من مجتمعٍ متقدمٍ لا يكترثُ كثيراً للدين، وكم من مجتمعٍ غارقٍ في الطقوس الدينية لكنه يرسفُ في أغلالِ التخلف!
إن سوء فهم معنى الدين ومعنى الطاعة والمعصية، كما يقول الرفاعي، هو الذي يقودُنا إلى هذا التشخيص الخاطئ. فنعتقدُ أن فقرنا هو عقوبةٌ إلهيةٌ على ذنوبنا، بينما هو في حقيقتهِ نتاجُ سياساتٍ اقتصاديةٍ فاشلة، وفسادٍ ينهشُ في جسدِ الوطن. ونعتقدُ أن انتشار المرض بيننا هو ابتلاءٌ من السماء، بينما هو في حقيقتهِ نتيجةُ إهمالٍ للنظامِ الصحي، ونقصٍ في الوعي. ونعتقدُ أن تخلفنا العلمي هو قضاءٌ وقدر، بينما هو ثمرةُ نظامٍ تعليميٍّ مترهلٍ يُعلّمُ التلقين ويقتلُ الإبداع.
والأدهى من كلِّ هذا، أننا نرى بأعيننا كيف تجتمعُ علينا أمراضٌ خمسة، وصفها الرفاعي بدقة، وهي التي تهدمُ صرح أي أمة: الجهل الذي يُطفئُ نور العقول ويجعلنا فريسةً سهلةً لكل خرافةٍ ولكلِّ فكرٍ مُضلل. الفقر الذي يكسرُ ظهر الكرامة ويجعلُ الإنسانَ مشغولاً بلقمةِ عيشهِ عن بناءِ مستقبله. المرض الذي ينهكُ الأجساد ويُضعفُ من قوةِ المجتمع وعافيته. الاستبداد الذي يكممُ الأفواه، ويُحطّمُ الأقلام، ويخنقُ كلَّ صوتٍ حرٍّ يطالبُ بالإصلاح. الظلم: الذي يقتلُ الشعورَ بالانتماء، ويغرسُ بذور الحقدِ واليأس في القلوب.
هذه هي أمراضنا الحقيقية، وهذه هي "ذنوبنا" الدنيوية التي يجبُ أن نتوبَ منها، لا بالاستغفارِ فقط، بل بالعملِ الدؤوبِ على علاجها.
فهل من الإنصافِ أن نتركَ هذه الأسبابَ الحقيقية، ونتهمَ علاقتنا بالله؟ أليسَ الأجدرُ بنا، إن كنا مؤمنين حقاً، أن نرى في محاربةِ هذه العللِ أسمى أشكالِ العبادة؟ إن بناءَ مدرسةٍ لمحوِ أميةِ جاهل، هو صلاةٌ في محرابِ العلم. وإن إيجادَ فرصةِ عملٍ لفقير، هو صدقةٌ لا تعدلُها كنوزُ الأرض. وإن إقامةَ العدلِ بين الناس ورفعَ الظلمِ عن المظلوم، هو أقدسُ أشكالِ التقربِ إلى الله.
إن هذه الكلمات ليست دعوةً لتركِ الدين، بل هي دعوةٌ لفهمهِ فهماً أعمق وأكثرَ نضجاً. دعوةٌ لنؤمنَ بأن الله قد منحنا العقلَ لنُعمّرَ بهِ الأرض، لا لنُعطلهُ وننتظرَ الحلولَ من السماء. إنها دعوةٌ لنحولَ إيماننا من حالةِ السكونِ والاتكال، إلى طاقةٍ جبارةٍ من العملِ والبناءِ والإصلاح. فالإيمانُ الحقيقيُّ ليس في أن ندعو الله ليُغيّرَ حالنا، بل في أن نعملَ نحنُ بالأسبابِ التي وضعها لتغييرِ حالنا، واثقينَ من أن رعايتهُ ستكونُ حليفةَ الساعينَ والمُصلحين.
***
مرتضى السلامي