أقلام حرة

لماذا نختار تجاهل المعلومات التي أمام أعيننا؟

بقلم: جيريمي إل. فوست

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن معرفة الأسباب التي تدفع الناس إلى اختيار عدم المعرفة - وعواقب هذا الاختيار - قد تساعدنا في معرفة متى يصبح الأمر مشكلة.

أخيرًا، ستحل عليك غدًا العطلة التي كنت تنتظرها. ستنطلق أنت وأصدقاؤك في رحلة بحرية لمدة أسبوعين، خالية من المسؤوليات ومليئة بالمرح. تبدأ بتجهيز أمتعتك ثم تشعر بدوار خفيف. لا تُفكر كثيرًا في الأمر لأنك كنت متوترًا مؤخرًا في محاولة الاستعداد للرحلة. لاحقًا، تبدأ بالسعال. ربما مجرد حساسية، هذا ما تفكر فيه وأنت تُكمل يومك. عندما تستيقظ في الصباح - يوم الرحلة - تشعر بالتهاب في الحلق وقشعريرة. تُفكر للحظة: يبدو أن هذا قد يكون كوفيد. ربما عليّ إجراء فحص ذاتي. تبدأ في السير نحو خزانة الأدوية، لكنك تتوقف.إذا جاءت نتيجة الاختبار إيجابية، ستشعر بأنك مضطر لعزل نفسك عن الآخرين وستفوّت الرحلة. لقد قضيت وقتًا طويلًا في التخطيط لها، ودفعْت مبلغًا كبيرًا من المال مقابل التذاكر. أصدقاؤك سيشعرون بخيبة أمل. " أنا متأكد أنني بخير ."تُقرّر أن من الأفضل ألّا تعرف.

سواء مررتَ بمثل هذا الموقف أم لا، فإن كثيرين منّا قد اختاروا "ألّا يعرفوا" بطرق أخرى: على سبيل المثال، تأجيل زيارة الطبيب لإجراء فحص، أو الامتناع عن الاطلاع على تقريرك الائتماني، أو تجنّب بعض المواضيع في النقاش لأنك تفضّل ألّا تعرف رأي الآخرين الحقيقي. تُعرف هذه العملية — أي اختيار عدم معرفة معلومة متاحة لك مجانًا — باسم تجنّب المعلومات.

لدينا اليوم إمكانية الوصول إلى معلومات تخصّنا شخصيًا أكثر من أي وقت مضى وفرصٌ أكبر للبحث عنها أو تجنبها. فالأجهزة الذكية تتابع نشاطنا البدني وأنماط نومنا، والخدمات المصرفية الإلكترونية تتيح لك مراقبة أمورك المالية في أي وقت، ويمكنك مقارنة نمط حياتك مع حياة أصدقائك أو المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. لدينا أيضًا وصول دائم إلى معلومات ذات تبعات كبرى، مثل معلوماتٍ حول أزمة المناخ، وحقوق الإجهاض، والآثار الاقتصادية للرسوم الجمركية الأمريكية. إذا صحّ القول المأثور "المعرفة قوة"، فإنّ معظم الناس يمتلكون قدرًا غير محدود من السلطة في جيوبهم. وفي هذا السياق، من الغريب أن يختار أحدهم التخلي عن هذه السلطة بتجنب المعلومات.

عندما بدأت دراسة هذه الظاهرة، نظرت إليها على أنها نوع من "البحث عن الذات"، فأنا نفسي كنت قد تجنبت المعلومات في الماضي. ورغم كوني مهووسًا بالإحصاءات ومولعًا بالبيانات، إلا أني تساءلت: كيف يمكنني أن أكون محاطًا بالأرقام والحقائق، ومع ذلك أختار أحيانًا تجنب معرفة معلومات تتعلّق بي شخصيًا؟

أكدت أبحاثي أنني لست وحدي في هذا الشأن. مؤخرًا، أجريتُ دراسة مع زميلتي جينيفر إم. تابِير، طلبنا فيها من طلاب جامعيين المشاركة في استطلاع يومي، يجيبون فيه عمّا إذا كانوا قد تجنّبوا أي نوع من المعلومات في ذلك اليوم. وجدنا أن المشاركين تجنّبوا المعلومات — في سياق واحد على الأقل — في أكثر من 30% من الأيام. أكثر المعلومات التي تمّ تجنّبها كانت تتعلق بالمعلومات المالية والأخبار والنشاط البدني .ومن اللافت للنظر أن 14 مشاركًا فقط (من أصل 181) لم يبلغوا عن أي تجنب للمعلومات خلال أسبوعين، بينما أفاد عدد مماثل بتجنب المعلومات في 10 أيام أو أكثر. هذه النتائج توضح أن غالبية الأشخاص يمارسون تجنبًا معتدلًا للمعلومات، بينما يبالغ البعض في هذه الممارسة بشكل واضح.

نظرًا لأن تجنّب المعلومات يبدو سلوكًا شائعًا، فلماذا يلجأ الناس إليه؟ في مراجعة علمية أعدّتها كيت سويـني وزملاؤها، جرى تصنيف الأسباب المحتملة لتجنّب المعلومات ضمن ثلاث فئات رئيسية: حماية معتقد قائم، وتجنّب اتخاذ إجراء غير مرغوب فيه، وتقليل المشاعر السلبية.

أولًا، قد تهدد المعلومات أنواعًا مختلفة من المعتقدات الراسخة لدى الفرد.  فعلى سبيل المثال، قد يؤمن شخص ما بأنه يتمتع بموهبة في استثمار الأموال في سوق الأسهم. ثم، في أحد الأيام، ينهار السوق فجأة وبشكل غير متوقّع. ومن المحتمل جدًا أنه خسر جزءًا من استثماراته. لكن بدلًا من التحقق من أدائه، يختار تجنّب معرفة التفاصيل، آمِلًا أن يتعافى السوق من تلقاء نفسه. وطالما أنه لا يرى الخسائر بعينه، فإن إيمانه بقدرته الاستثمارية يظلّ سليمًا دون أن يُمسّ. وقد درست عدة أبحاث ظاهرة تجنّب المعلومات في السياق المالي. ففي إحدى الدراسات، كان الناس أكثر ميلًا لتجنّب معرفة الخسائر المحتملة في الأسهم الافتراضية، مقارنةً بالأرباح المحتملة. وفي دراسة أخرى، تبيّن أن حاملي الأسهم في الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية كانوا يدخلون إلى حساباتهم ليفحصوا محافظهم الاستثمارية بشكل أكبر عندما كانت الأسواق مرتفعة.

بصورة أوسع، حين تكون هناك معلومات تهدّد معتقدًا معينًا — سواء كان عن الذات، أو عن شخص آخر، أو عن حالة العالم — فإن الميل الطبيعي يكون تجنّب تلك المعلومة والبحث بدلًا من ذلك عن معلومات تدعم المعتقد القائم. وقد أظهرت الدراسات أن الناس يفكرون مسبقًا في مدى تحيّز الخبر قبل قراءته، ويميلون إلى قراءة المصادر التي يتوقعون أنها تتفق مع آرائهم. وهذا قد يفسّر سبب ميل الناس إلى متابعة القنوات الإخبارية التي تتماشى مع معتقداتهم السياسية.

يميل الناس إلى تجنب المعلومات المزعجة عندما يشعرون بأنهم لا يملكون سيطرة على الموقف.

لكن تجنّب المعلومات لا يقتصر فقط على الدفاع المسبق عن المعتقدات.فكما في مثال اختبار كوفيد، قد تتطلّب المعلومات التي تكتشفها — مثل معرفتك بأنك مريض - أن تغيّر سلوكك بطريقة لا ترغب فيها.وقد يتيح لك تجنّب المعلومات أيضًا أن تتخذ قرارات ثم تدّعي لاحقًا أنك لم تكن تعلم.على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، قال حوالي 63% من المشاركين إنهم لا يريدون معرفة عدد السعرات الحرارية في قطعة الكعك - حتى لا يشعروا بالذنب عند تناولها. إن الدافع لدى هؤلاء يشبه دافع المسافر الذي يشتبه بأنه مريض، لكن يفضل ألا يعرف. (رغبة في حماية أنفسهم من العواقب غير المريحة للمعرفة)

وأخيرًا، هناك بُعد عاطفي لتجنّب المعلومات: فهذا السلوك قد يساعد على تجنّب مشاعر غير مرغوب فيها. في دراستنا اليومية (التي اعتمدت على مذكرات المشاركين)، وجدنا أن الأفراد كانوا أكثر ميلًا لتجنب المعلومات في الأيام التي شعروا فيها بمشاعر سلبية مكثفة. كما كانوا أكثر عرضة لفعل ذلك بعد أيامٍ عاشوا فيها مشاعر إيجابية قوية  وقد افترضنا أن الأشخاص الذين يشعرون بالحزن أو الغضب، قد يتجنّبون أي معلومة من شأنها أن تزيد حالتهم سوءًا. وبالمثل، بعد الشعور بسعادة كبيرة، يسعى الناس أحيانًا للمحافظة على هذه الحالة الإيجابية عبر تجنّب أي شيء قد يعكّر صفوهم. بشكل عام، وبما يتوافق مع النظريات النفسية، يبدو أن الناس يستخدمون تجنّب المعلومات كاستراتيجية لتنظيم المشاعر أي أنهم يحاولون السعي وراء المعلومات أو تجنبها بهدف تعزيز مشاعرهم الإيجابية وتقليل السلبية منها.

تشير أبحاث أخرى إلى أن الناس يتجنّبون المعلومات أحيانًا لأنهم يشعرون بأنهم غارقون فيها بالفعل. فعندما يشعر شخص ما بأنه مثقل بالمعلومات، فمن الطبيعي أن يقرر "أخذ استراحة" من متابعة الأخبار أو تصفّح الهاتف — حتى وإن كانت هناك أحداث كثيرة تدور حوله. كما توجد دلائل على أن الناس يميلون إلى تجنّب المعلومات المقلقة - مثل خطر الإصابة بمرض ما - عندما يشعرون بعدم وجود أي سيطرة لديهم على الموقف  فإذا لم يكن بوسعهم فعل شيء حيال ما قد يكتشفونه، فقد يفضّلون البقاء في جهل مريح بدلًا من مواجهة حقيقة مزعجة لا يمكنهم تغييرها.

ثمة عامل آخر محتمل قد يؤثر في قرار تجنُّب المعلومات، وهو إدراك الفرد لرغبة الآخرين في أن يعرف هذه المعلومات. فخلال بحثي مع  زميلتي " جينيفر تايبِر " حول تتبع معلومات كوفيد-19 في بداية الجائحة (قبل توفر اللقاحات)، سألنا المشاركين عن استعدادهم لإجراء فحص كوفيد في سيناريوهات مختلفة — مثلًا: إذا تعرّضوا لشخص مصاب، ثم سنحت لهم فرصة مقابلة صديق لم يروه منذ وقت طويل. وتبيّن أن الدافع الرئيسي لإجراء الفحص كان اعتقاد المشاركين أن أصدقاءهم أو عائلاتهم يريدون منهم ذلك. أي أننا — حين نعتقد أن الأشخاص المهمين في حياتنا يريدوننا أن نطّلع على معلومات معينة — نكون أكثر ميلًا لمعرفتها. والعكس صحيح أيضًا: إذا بدا أن الآخرين غير مهتمين بمعرفتنا لأمر ما، فقد نقلِّل نحن بدورنا من اهتمامنا به. هذا يسلّط الضوء على كيف يمكن للضغوط الاجتماعية — حتى غير المباشرة منها — أن تُشكّل خياراتنا المعلوماتية، سواءً في السياقات الصحية أو غيرها. فالتفاعل بين رغبتنا الشخصية وتوقعات المحيطين بنا قد يُحدد في النهاية ما نختار معرفته... وما نختار تجاهله.

لكن تجنّب المعلومات لا يخلو من المخاطر - بعضها بسيط، وبعضها قد يكون بالغ الخطورة. فقد يأكل شخص كمية من كعكة الشوكولاتة أكثر مما كان ينوي. وقد يتجاهل المستهلكون سياسات معيبة تتبعها شركة ما، ويواصلون شراء منتجاتها. وقد يتأخّر مريض في طلب العلاج من مرض كان يمكن اكتشافه مبكرًا، مما يؤدي إلى تفاقم حالته.

هناك أيضًا مخاطر أعمق يجب أخذها في الاعتبار. فتجَنُّب المعلومات التي تتعارض مع معتقدات المرء يُفسِّر - ولو جزئيًا - الاستقطاب السياسي. فالأشخاص الذين يتجاهلون وجهات النظر المخالفة لآرائهم يميلون إلى تعزيز ثقتهم بمعتقداتهم بشكل متزايد، بغض النظر عن الأدلة المتوفرة. إنهم بذلك يقتصرون على ما يريدون سماعه ويتجنبون ما لا يرغبون فيه. وفي سياق وسائل التواصل الاجتماعي، قد تسهم هذه النزعة في تعزيز خوارزميات تغذّي المستخدمين بمحتوى أكثر تطرفًا مع مرور الوقت.

قد لا يُشكّل تجنّب المعلومات مشكلة دائمًا؛ فهناك حالات يمكن أن يكون فيها مفيدًا.

في كثير من الأحيان، يتطلب تجنب المعلومات قدرًا من الامتياز الاجتماعي أو الاقتصادي. على سبيل المثال، يكون تجنب المعلومات المتعلقة بأمورك المالية أسهل عندما يكون لديك ما يكفي من المال. وبالمثل، يكون تجنب المعلومات حول السياسات العامة – بما في ذلك السياسات الضارة – أسهل عندما لا تتأثر مباشرةً بتلك السياسات.

ومع ذلك، وكما أشرتُ سابقًا، فإن تجنّب المعلومات لا يكون دائمًا مشكلة؛ ففي بعض الأحيان، يمكن أن يكون مفيدًا. فعادة "التمرير الكئيب" (doomscrolling)، أي الاستهلاك المستمر للأخبار السلبية عبر الإنترنت، ترتبط بارتفاع مستويات القلق وتدهور الصحة النفسية.

لذا فإن تجنّب هذا النمط، ووضع حدود للتعرّض للمعلومات السلبية، قد يعود بفائدة على سلامة الصحة النفسية.

صحيح أن التجنّب المزمن للمعلومات المزعجة قد يؤدي إلى مشكلات، إلا أن تأثيراته قد تكون ضئيلة في مواقف معينة. ففي دراستنا مع طلاب الجامعات، لم نجد أدلّة قوية على أن تجنّب المعلومات حول الدرجات، أو المال، أو الصحة في يوم معين أثّر على سلوكهم في اليوم التالي، مثل الوقت الذي قضوه في الدراسة، أو الإنفاق، أو ممارسة الرياضة. لكن أبحاثًا مستقبلية قد تكشف الآثار بعيدة المدى لتجنّب المعلومات الحاسمة (مثل المعلومات عن كيف يمكن لعدم النشاط البدني أن يزيد من خطر الإصابة بالأمراض).

إذا كنتَ - أو شخص تعرفه-  قد تجنب مؤخرًا أنواعًا معينة من المعلوما ، فقد يكون ذلك لأسباب متنوعة، ولا توجد قاعدة واضحة تحدد متى يكون التجنب "جيدًا" أم لا. لكن أثناء تفكيرك في قراراتك المتعلقة بالسعي وراء المعرفة أو الابتعاد عنها، من المفيد أن تسأل نفسك: هل هناك ما يمكنني فعله بناءً على هذه المعلومة؟

تشير الدراسات الكمية والنوعية على حد سواء إلى أن الناس يميلون لتجنّب المعلومات عندما يشعرون بالعجز عن التأثير في نتائجها. فإذا كنت تغرق في الأخبار السيئة حول أمر لا تملك حياله شيئًا، وكانت هذه المتابعة تؤثر سلبًا على صحتك النفسية، فربما من الأفضل أن تأخذ استراحة.

أما إذا صادفت معلومات قابلة للتطبيق — تتعلق بصحتك، أو أموالك، أو أحداث يمكن أن تؤثر فيها أنت أو غيرك — فربما يستحق الأمر أن تتعرّف عليها، حتى لو كنت مُيالًا إلى تجنبها.

***

...................

جيريمي إل. فوست/Jeremy L Foust: أستاذ مساعد في قسم علم النفس في جامعة كونفرس بمدينة سبارتنبرغ، ولاية كارولاينا الجنوبية، الولايات المتحدة. وهو أيضا عالم نفس تجريبي متخصص في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الصحي.

https://psyche.co/ideas/why-we-choose-to-avoid-information-thats-right-in-front-of-us

في المثقف اليوم