أقلام حرة
صادق السامرائي: أفكارنا المقهورة!!

الحياة عمارة أفكار، ولبناتها الأساسية أفكار إنسانية ذات قدرات فاعلة وطاقات وثّابة من أجل تأكيد دورها وإظهار وجودها ومشاركتها في التفاعل مع زمنها، ولا توجد حياة بلا أفكار، وعندما يتم منع الأفكار يتحقق قتل الحياة.
وفي تأريخ الشعوب هناك أنظمة تتبنى أسباب الموت وأخرى تتبنى إرادة الحياة، ويكون الإنجاز الأول بالإستبداد والطغيان والقمع الجائر للرؤى والأفكار، وتحويل الأوطان إلى مستنقعات راكدة تتعفن فيها المخلوقات، ويتأكد الإنجاز الثاني بأنظمة ديمقراطية ترفل بالحرية والفرص اللازمة لتحقيق التطلعات المتدفقة والإرادة الحرة، فتكون الحياة نهر يتدفق وأمواجه تتواكب.
وفي مجتمعاتنا، قمعت الأفكار على مدى القرن العشرين، وحرمت الناس من الجد والإجتهاد لصناعة رموز الأفكار، وتأكيد مشاركتها في بناء القاعدة الحضارية المعاصرة للأجيال، حتى تفتت الموجودات وتسيّدت قوانين المستنقع وغاب جريان الأنهار، وعمّ الجفاف الفكري والروحي والبيئي ليحطم أي سبب للبقاء.
وفي محنة الإستنقاع الحضاري المقيم في ديارنا، تفاعلت عوامل كثيرة لكي تمعن بقسوتها وإتلافها لوجودنا، حيث كان لعامل المصالح الإقليمية والعالمية دور فعّال ومدمر .
فبعد الحرب العالمية الثانية خصوصا، تم إقامة مشروع الكيان العربي الميت، بمعنى أن يكون العرب جميعا حالة خاملة، تسمح بأخذ الثروات وتنمية الإتجاهات المطلوبة في المنطقة، وفرض الشروط اللازمة لإقامة المشاريع والخطط وإنجاز الأهداف.
وظلت الإرادات الطامعة في وسواس قهري، من أهم أعراضه وعلاماته، أن يدوم الحكم الفردي الإستبدادي، ويُمنع الشعب من إطلاق قدراته وأفكاره، وأن يكون أرقاما وأشياءَ معلبة في صناديق الطغاة .والمستبدون يحركونهم وفقا لمقتضيات مصالح الآخرين.
حصل ذلك في جميع دول الأمة التي تحولت إلى أشياء يمكن تحريكها وفقا لأجندات المصالح والأهداف، وكان النفط العامل الأكبر في هذا السلوك، إضافة إلى المشروع المعروف الذي بدأ في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فهذان الثابتان كانا محور القبض على إرادتها والخط الأحمر الذي يصعب تجاوزه أو الإقتراب منه، لأنهما يمثلان خط الضغط العالي السياسي في المنطقة عموما.
لكن دوران الأيام وتوالي العقود وتراكم المتطلبات، وضع القوى الكبرى في محنة إقتصادية صعبة مما إضطرها إلى الإقتراب بمنظار آخر، ومراجعة أفكارها ومحاولة الخروج من قيد الوسوسة التي أتلفتها إقتصاديا وأخلاقيا.
وكأن الدنيا تعود إلى بداياتها، إلى حيث الإنطلاقة الأصوب والأنضج، لتؤكد بأن لابد للشعوب أن تعبّر عن أفكارها وتبني وجودها في الحاضر والمستقبل.
فقد اثبتت مسيرة قرن قاهر فتاك، أن الأمم لا يمكن محقها والشعوب لا يمكن سحقها، وأن الضغط يولد إنبعاجات مرعبة ومكلفة جدا، وأن لا بد من توفير الأجواء اللازمة لتحقيق الأفكار الإنسانية في الأوطان.
لقد أثبتت مسيرة الأوجاع للإرادات الوسواسية بأن الشعوب تكون أكثر إيجابية وفاعلية في بناء المُثل والقيم الإنسانية النبيلة، عندما يتمكن الإنسان فيها من التصريح بأفكاره والتعبير عن نفسه بحرية وكرامة.
ووفقا لهذا الوعي الجديد، فأن قوة التعبير إنطلقت بعنفوان وبسرعة كاسحة، لكن بعض عناصر المعادلة الوسواسية لا زالت مقهورة بوساوسها، وغير قادرة إلا على الفعل القهري الذي يوهمها بأنها ستستريح ويهدأ قلقها وخوفها.
وفي هذا الزمن الفياض، لا يمكن مواكبة الأحداث والعيش فيها والكتابة عنها، لأن سرعتها غير معهودة ومتقدمة على مفردات الإستنقاع والركود.
إنها إنفجار ثوري لا مثيل له في التأريخ، فالشعوب صارت قنابل متأهبة للإنفجار العظيم.
فهل سيُسمح ببناء كينونتنا الحضارية المعاصرة، أم أن إرادة رعاية المشاريع ستقضي بما ترى؟!
***
د. صادق السامرائي