أقلام حرة

رافد القاضي: عام مع النخلة.. رحلة الصبر والعطاء

النخلة، تلك الشجرة الصامتة تقف شامخة بين الأرض والسماء، شاهدة على مرور الأيام وتبدّل المواسم وجذورها تمتد في التربة بحثًا عن الماء، وسعفاتها تعانق الشمس والرياح، وثمرها يكتمل بصبرٍ لا يعرف الاستعجال.

تأخذنا النخلة في رحلة، شهرًا بعد شهر وموسمًا بعد موسم لنرى كيف تتفاعل مع الطبيعة من حولها، وكيف تصمد في وجه الحر والبرد، وكيف تمنح الظل والثمار بلا كلل وهنا بين يوم وآخر، نتعلم الصبر والمثابرة والعطاء الصامت ونرى انعكاس الزمن على كل عقدة في جذعها وكل سعفة في قمتها.

من الشتاء البارد إلى حرارة الصيف، ومن المطر إلى الرياح ومن براعم الربيع إلى ثمار الخريف سنتتبع النخلة نسمع صمتها نشعر بحياتها ونرى كيف يمكن للطبيعة أن تكون مدرسة للصبر والقوة والوفاء عبر أشهر السنة:

[كانون الثاني – يناير]

الشتاء لا يزال قاسيًا، والرياح الباردة تهب بلا هوادة وجذور النخلة تمتد في الأرض بحثًا عن أي رطوبة متبقية من الأمطار السابقة، وسعفاتها تتصلب لكنها صامدة تحتفظ بقدرتها على امتصاص أشعة الشمس القليلة، فتغذي نفسها وتعد الثمار القادمة والفلاح يمر عليها يراقبها ويعرف أي سعفة بدأت بالذبول، وكل تفصيلة فيها تبدو كصفحة يومية في سجل الحياة.

[شباط – فبراير]

الندى قد ذاب، والمطر يتكرر، والأرض تتشبع بالماء والجذور تشربه ببطء، والنخلة تتنفس وسعفاتها تتلألأ تحت قطرات المطر وكأنها تغني سر الحياة الصامتة والطلح لم يظهر بعد لكنه يستعد للنمو في عمق عقل النخلة، التي تختزن الطاقة للأشهر القادمة.

[آذار – مارس]

أول علامات الربيع تظهر، السعفات الجديدة رقيقة وخضراء فاتحة، تملأ الفراغ بين سعفات الشتاء الباهتة والفلاح يبدأ بتقليم النخلة يزيل السعفات الميتة ويترك المجال للضوء كي يصل إلى قلب الشجرة والأرض بدأت تدفأ، والجذور تعمل ببطء، تجمع الغذاء وتمتص المعادن وتعد نفسها لمرحلة الإزهار.

[نيسان – أبريل]

الربيع في أوجه، الشمس أدفأ والرياح لطيفة والنخلة تظهر براعم صغيرة على أطرافها علامات الحياة الجديدة والفلاح يراقبها بعين خبيرة يلمس جذعها ويشعر بالصلابة يعرف أن كل عقدة في الجذع تحمل موسمًا سابقًا ودرسًا في الصبر والطيور تحط على سعفها بحثًا عن مأوى ومأكل والنخلة تمنحها الظل والأمان.

[أيار – مايو]

الحرارة تتزايد، الأرض تجف بسرعة والجذور تمتد أعمق للعثور على الماء والنخلة تتحمل، تعلمها الطبيعة الصبر على النقص، تعلمها كيف تعطي بلا شكوى؟

البراعم تتحول إلى أزهار صغيرة تشبه الرؤى، لا يعرف أحد شكلها حتى تكتمل والشمس تصعد عالية، والأوراق تتأرجح مع الرياح وكأنها رقصة خفية مع عناصر الطبيعة.

[حزيران – يونيو]

الحرارة بلغت ذروتها، والنخلة تصمد بلا كلل وسعفاتها تُسقط بعض الرطوبة والجذور تعمل تحت الأرض بلا توقف والأزهار تتحول إلى ثمار صغيرة، البلح لم يتشكل بعد لكنه يحتفظ بنكهته المحتملة في الداخل والفلاح يروي الأرض عند الحاجة يراقبها بعناية، مدركًا أن هذه الأشهر حرجة للثمار القادمة.

[تموز – يوليو]

الحرارة شديدة، الشمس تقسو بلا رحمة النخلة تعلم أن الصمود فن، والظل الذي تمنحه ثمرة جهدها والبلح يبدأ بالنضج تدريجيًا، يتحول من أخضر خفيف إلى أصفر كالذهب، لكنه يحتاج إلى الوقت ليصبح حلو المذاق وكل حركة سعفاتها تحمل حياة وكل ظل على الأرض يروي قصة صبرها.

[آب – أغسطس]

البلح يكاد يكتمل، والشمس لا ترحم والفلاح يتفقد كل ثمرة، يزيل التالفة ويترك الأفضل للنضج الكامل والجذور تمتص الماء بلا توقف، تحافظ على الثمار. النخلة صامتة لكنها تنبض بالحياة، كل ورقة تحمل درسًا وكل عقدة تحكي موسمًا.

[أيلول – سبتمبر]

أيام جني الثمار بدأت، والتمر جاهز والفلاحون يجنونها بعناية، يعرفون أي ثمرة حلوة وأيها ناقصة والنخلة تفرغ قلبها من عطايا الموسم، لكنها لا تضعف، لأنها تعرف أن الحياة مستمرة، والجذور ستواصل العمل للموسم القادم.

[تشرين الأول – أكتوبر]

الحرارة بدأت تنخفض، سعفاتها تتغير تدريجيًا وبعض الثمر المتأخر يُترك والجذور تبدأ بالاستعداد للشتاء والنخلة تعود لتقوية نفسها، تمتص ما تبقى من الماء تجمع الطاقة وتستعد للصمود من جديد.

[تشرين الثاني – نوفمبر]

الأيام أقصر، الضوء أقل والنخلة تتكيف مع قصر النهار والسعفات تصبح أغمق وبعض الفروع القديمة تذبل لكنها لا تموت، والأرض تحتها تبرد، والجذور تتعمق لحماية الشجرة من فقدان القوة.

[كانون الأول – ديسمبر]

الشتاء عاد كما في بداية الدورة، والنخلة واقفة صامدة وجذورها في الأرض الباردة وسعفاتها تتحمل البرد والرياح وكل موسم مضى، وكل ثمرة قطفت، وكل سعفة ذبلت تبقى النخلة ثابتة، صامتة، وشاهدة على حياة متكررة لكنها لا تشبه نفسها أبدًا.

هكذا، طوال العام، تعلم النخلة الإنسان الصبر، تعلمه العطاء دون انتظار، تعلمه أن البقاء ليس مجرد صمود في الظهور بل عمل خفي مستمر، تواطؤ هادئ مع الأرض والماء والحرارة والرياح، حياة صغيرة لكنها مكتملة في تفاصيلها الواقعية.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم