مقاربات فنية وحضارية
جمال العتابي: علاقة "سارتر" بالفن التشكيلي
جماليات مستترة في نصوصه الوجودية والأدبية
لم يخصص جان بول سارتر للفن التشكيلي دراسة مستقلة، ولم يترك كتاباً عن الجمال أو فلسفة الفن يتضمن موقفاً واضحاً من التعبير الفني والجمالي، لكننا نجد في ثنايا كتاباته ودراساته الأدبية والفلسفية ما يمكن أن نعتبره نظرة فنية، أو موقفاً جمالياً له تطبيقاته في الفن التشكيلي.
في دراسته المهمة عن المتخيل التي حلل فيها التخيل، توصل إلى أن الوعي يمارس التخيل على شكل إبداعي، ولهذا يختلف عن "المدرك"، وربط بين التخيل والجمال أو الموضوع الجمالي، ووازى بينهما، اعتمد سارتر في هذه الدراسة على المنهج الظواهري في التحليل، لتأثره بهذه الفلسفة في بداية حياته.
وفي دراسة أخرى مهمة له عنوانها "ما الأدب"، فيها يتوصل إلى أن الفن التشكيلي والشعر والموسيقى يتقاربون ويتلاقون في مهماتهم الإبداعية، ذلك أن الفنان والموسيقار والشاعر يتعاملون مع الأشياء لا المعاني أو الدلالات، والأشياء تبدو مستقلة، تفيض بغناها وتدعونا لتذوقها بحرية تامة، ولهذا لا يمكن للفنان التشكيلي أن يلتزم، كالشاعر والموسيقى، النثر وحده هو الملتزم لأنه مرتبط بالمعاني.
هاتان الدراستان تمثلان التجارب الأولى للكتابة عن الفن التشكيلي، فيهما، يبدو سارتر منظراً، بعيداً عن الدراسات التطبيقية الوصفية، هما محاولة لتطبيق نظرته في الجمال والفن على تجارب فنية محددة.
يبدو أن سارتر يربط بين مفهومه للالتزام في الفن التشكيلي والابتعاد عن التمثيل والمشابهة، لذلك يقول: حين يفلح الرسام في رمي التشابه والتمثيل فان المعنى المتحرر يتجلى. هذا يعني أن الفنان إذا استطاع أن يحقق شكلاً من التعبير لا مجال فيه للمحاكاة فان الالتزام في الفن التشكيلي ممكن، بل يصبح ضرورة بالنسبة لفنان اختار أن يعبّر عن عصره، شرط أن يتمتع الفنان بحسّ سليم. لا ينفر الجمهور من عمل يقدمه له حضوره الذي يعتمد توفر العناصر المرئية والخفية. وهذا ما حققه بيكاسو في لوحته الخالدة "الجورنيكا"، التي يقول عنها سارتر أنها العمل الفني الوحيد الذي يقدم لنا مجزرة رهيبة، فيها من الجمال لا مجال للشك فيه.
كان لسارتر تأثير مباشر على الفن التشكيلي المعاصر، وذلك لعدة أسباب، لعل أهمها الأزمة النفسية في المرحلة القلقة التي عاشتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والشعور بالخوف الذي رافقها، يضاف إلى ذلك رغبة سارتر في نشر الأفكار على نطاق الحياة ليوسّع دائرة تأثيره، وربطها بالواقع، وهكذا تأثر عدد من الفنانين بأفكاره، وعاش عدد آخر منهم حالة من التشابه مع الأزمة، عبروا عنها على نحو آخر.
ولعل أهم هذه الدراسات التي ارتبطت بمعاصريه من الفنانين ما كتبه عن الفنان النحات جياكوميتي، لأنهما ينطلقان من أرضية مشتركة، عايش فيها سارتر تجارب صديقه، وعرفها عن قرب، وتأثر جياكوميتي بالوجودية بل عاينها.
يقول سارتر: ليس هدف جياكوميتي تقديم صورة لنا، إنما يقدم أخيلة تثيرنا، وتهبنا ذاتها، تماثيل جياكوميتي لا تقدم لنا نسخاً من الواقع، بل تقدم خيالاً، هذه الخيالات هي الموضوعات الجمالية التي تتمتع بوجودها الخاص، وتستقل بنفسها عنا.
ارتبط جياكوميتي بسارتر فكرياً وسلوكياً منطلقاً من فكرة أساسية تقول: إن كل إنسان يعيش في العالم في جزيرة مغلقة. وبهذا لا وجود لتماس حقيقي بين الأشياء، لذلك نحت تماثيله متباعدة يحيط بها الفراغ، من مادة هشّة، تتعرض للفناء، وجعل الفضاء المحيط بالإنسان أكثر أهمية منه. لهذا قال عنه سارتر: إنه الفنان الأول الذي خطر له أن ينحت الإنسان عن بُعد، أي عن مسافة ما.
إن الفراغ برأي سارتر هو مسافة محددة تفصل بين انسان وآخر غير قابلة للنقصان مهما حاول الإنسان الاقتراب من أخيه الإنسان.
تمكن جياكوميتي من ربط فنه بالوجودبة عبر محاولة تجسيد أهم أفكار سارتر حول الوجود والعدم، وعلاقة الإنسان بالآخر، وهي منطلق أساسي لمشكلة عاشها، بكل جوارحه.
لم يكن جياكوميتي مجرد فنان يطبّق آراء سارتر بل يعيشها، ولذا كان يعيش بوضع بوهيمي، يقضي سنوات في عمل فني ما، ثم يحطّمه، ويعود منصرفاً لعمل آخر، كان مخلصاً إخلاصاً غريباً للحظة التي يعيشها، يكره الأبدية، ويركّز على الإبداع، يحب الإنسان وينقّب عن نفسه في مغامرة تبدو الإبداعية كلها فيها.
هكذا نرى بوضوح كيف انتقلت الأفكار الوجودية إلى الفن التشكيلي وكيف عبّر الفنان عنها بأعمال، وكيف ارتبطت أفكار عدد من الفنانين بالتجربة الوجودية على مستوى التنظيم والأفكار، وعلى مستوى الممارسة. وهناك عدد من الفنانين في الغرب وفي بلداننا العربية تأثروا بتلك الأفكار، لشعورهم بالوحدة والقلق، لم يكن التأثير مباشراً في بعض الأحيان، بل تعبير حر عن شعور الإنسان بالعبث واللا جدوى في العالم الرأسمالي المسؤول عن الفجوات والأزمات الإنسانية والاقتصادية.
قدم سارتر للفن التشكيلي رؤية فلسفية عميقة، جعلت من النقد الفني وسيلة للتعمّق في فهم الوجود الإنساني والعلاقات الاجتماعية. ولم تكن كتاباته مجرد تحليلات شكلية للأعمال الفنية، بل كانت غوصاً في أعماق التجربة الإبداعية وربطاً عضوياً بين الفن والحرية والوجود.
لقد نجح سارتر في تقديم وجهة نظر وجودية للفن، جعلت من العمل الفني وسيلة للتحرر والتعبير عن الذات في عالم مليء بالقلق والغربة. وتظل آراؤه النقدية مرجعاً هاماً لكل من يريد فهم العلاقة العميقة بين الفلسفة والفن في القرن العشرين.
***
جمال العتّابي






