اخترنا لكم
فهد سليمان الشقيران : يوران.. نموذج غير مفيد

تعبّر الفلسفات باستمرار عن زمانيتها، فكل نظريةٍ تحمل معها لحظة انبجاس، منذ الإغريق وحتى اليوم. ونلاحظ أن الفلسفات تزداد مأساويةٍ مع تفاقم العثرات، ومشاهد النهايات. لن نتحدث عن معارك إسبرطة وأثينا، وإنما عن انبعاث الفلسفات الحزينة التي لقيت رواجاً لدى العالم في الثلث الأول من القرن العشرين، ومن ثمّ تلقّفها بعض المثقفين العرب بعد الهزيمة في 1967، حيث راجت الفلسفات الوجودية، والأحزان، والمشاعر الخلاصية، واتجه معظم المثقفين نحو هذه الحالة من النشيج الصاعد، وتحولت القصائد والكتب والأفكار إلى ملاحم من الدموع والنواح بل والبكاء. في مقدّمة تلك النظريات التي لقيت رواجها عربياً الفلسفة الوجودية.
وما كان رواجها نظريّاً فلسفيّاً بقدر ما ذُهب بها نحو الشعر والاحتجاج. اتجه المثقفون نحو كيركغارد وألبير كامو وسيوران، ولهذا الاسم الأخير حيويّته التي تؤثر على جيلٍ من الروائيين والمثقفين حتى اليوم، حيث يشعرون بالعزاء كلما زاد النواح والبكاء. إميل سيوران فيلسوف وكاتب روماني، من مواليد عام 1911، نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية، ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية، والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. سيوران لم يكن إلا «شاعر الغضب». لم يمسك بناصية النظرية الفلسفية قط. إنه شاعر مشؤوم وحزين، وقصته غاية في التشرذم.
وألفت لتحليل مهم لإبراهيم جركس في بحثه بعنوان: «ماذا يعلمنا سيوران عن الحياة» حين قال: «وجهة نظر سيوران هي أنّك حين تحاول التخلّص من مشاعر الخوف والحزن تجاه الوجود وإنكارها، فإنّ ما تفعله حقاً هو عدم أصالة فكريّة. أنت لا تحبّ عدم الارتياح الذي تولّده فيك هذه المشاعر، لذلك تحاول أن تجد بعض التبريرات العقلانية للحياة التي تسمح لك بالشعور بتفاؤل أكثر. وهو يقول إنّ ما تفعله في الوقت نفسه هو تقييد نفسك بعقيدة الأمل الكاذب بأمور أسمى. الآن، مرّة أخرى، وعلى المستوى السطحي، قد يبدو الأمر محبطاً. وقد يخرج شخص ما من تلك النقطة بموقف مثل، «حسناً، ما الهدف من فعل أي شيء؟».
ولكن على مستوى أعمق، ما يقوله سيوران هنا هو مجرد التفكير في عدد الاحتمالات التي أصبحت مستحيلة بالنسبة لك عندما ربطتَ نفسك بعقيدة التفاؤل والأمل هذه». الخلاصة، أن الفلسفة عنوانها النظريّة القويّة العتيدة، فهي لا تبنى على الأحزان والدموع والشعر، حين تقرأ لفلاسفة كبار مثل كانط أو نيتشه أو هيدغر أو هوسرل أو سارتر وغيرهم الكثير تعرف أن الفلسفة وظيفتُها تكمن في إمداد الإنسان بالقوّة والحيوية والطاقة.
إن الاستسلام لأفكار البدايات والنهايات من دون تفسير اللحظة والزمن هو ضربٌ من الشعر والهذيان العام. الفلسفة أكبر من أن تختصر بمقولاتٍ وشذراتٍ عن البدء والنهاية، إنها تفسّر لحظتك التي بين يديك الآن، وعليه فإن صيغة سيوران الشعرية سببت الكثير من الآثار النفسية الكارثية، وبنظري أن مجاله روائي وشعري أكثر منه نظري فلسفي، بل وتفتقر أفكاره للحيوية الدنيوية، ولهذه الفكرة تتمة في المقالة التالية.
***
فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 مايو 2025 00:59