اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الحقيقة والعقل.. والرؤية المحافظة الجديدة

روبرت جورج، فيلسوف وقانوني أميركي من التيار المحافظ الذي له تأثير قوي في الإدارة الأميركية الحالية، وقد نشر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «البحث عن الحقيقة وقول الحقيقة» (Seeking truth and speaking truth)، مع عنوان فرعي هو «القانون والأخلاق في لحظتنا الثقافية». وكما يتضح جلياً من العنوان، فالمؤلف يسهم في النقاش الفكري المحتدم راهناً في بلاده حول القيم المدنية في مجتمع تعددي حر، تحكمه النظم الليبرالية، ويعيش توتراً متزايداً حول علاقة الحرية بالخير المشترك.
وقد سبق للمؤلف نفسه أن نشر في عام 1999 كتاباً آخر بعنوان «الدفاع عن القانون الطبيعي»، مقترِحاً فيه العودةَ إلى أفكار الفضيلة والخير الأسمى كما تصورها أرسطو وتوماس الإكويني، من منظور معياري موضوعي يرفض إرجاعَ القيم للذاتية المحضة والاختيار الشخصي الحر. في الكتاب الجديد يعمق روبرت جورج هذه الأطروحة بالرجوع إلى السياق الاجتماعي الراهن في بلاده، والذي يشهد احتدامَ الجدل في ملفات حيوية مثل الكرامة الإنسانية والتمييز الإيجابي والحقوق المدنية ونظام الأسرة والزواج.
منذ البداية، يلاحظ روبرت جورج أن المؤرخين يميزون تمييزاً غير دقيق بين هيمنة الإيمان الديني في العصور الوسطى وتحكيم العقل في عصور التنوير. والواقع أن اللاهوتيين الكبار من المسيحيين واليهود والمسلمين، مثل توماس الإكويني وابن سينا وابن ميمون آمنوا بقوةٍ بانسجامِ الاعتقاد مع العقل، ونظروا بإيجابية للعقل الطبيعي.
أما مفكرو الأنوار فلم يستبدلوا الإيمانَ بالعقل، بل إنهم في غالبهم جمعوا بين الاعتقاد الديني والعقل حتى في المجال اللاهوتي الضيق. وبعد عصر الإيمان وعصر العقل، ها هي المجتمعات المعاصرة تدخل في ما سماه المؤلف حقبةَ «الإحساس» age of feeling، أي بناء الأخلاقيات على محض الشعور الذاتي بمعزل عن الإيمان والعقل.
المشكل الذي يطرحه هذا التصور هو أن هذه النزعة الشعورية الذاتية تحولت في وعي مَن يؤمن بها إلى واقع موضوعي له انطباقاته العملية، التي من أهمها اعتبار هذه الإحساسات حقائق مطلقة دقيقة بما يفضي إلى ما سماه المؤلف حالةً من «الإطلاقية العدوانية» التي تدفع البعض إلى الحد من حرية التعبير، والبعض الآخر إلى ثقافة الإلغاء بما لها من انعكاسات فظيعة على حياة الناس ومساراتهم المهنية. من أجل تجاوز هذه الوضعية، يدعو المؤلف إلى الرجوع للمفهوم التقليدي للحقيقة، خصوصاً في القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى التي تمزق المجتمع حالياً.
والحقيقة تحيل إلى مرجعية موضوعية مستقلة عن مشاعرنا وإحساساتنا، ويتعين البحث عنها بشجاعة وتجرد لحسم الإشكالات المعيارية المحورية المطروحة في الواقع الراهن. إلا أن المؤلف يعترف بضرورة اعتماد ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل»، أي البحث عن الحقيقة في إطار جماعي لسد اختلالات الوعي البشري المعرَّض للخطأ والوهم. لا بد من اعتماد أخلاقيات النقاش العام وحرية التفكير والتعبير من أجل المراجعة المستمرة للأفكار والمعتقدات السائدة، وقبول مختلف الآراء وإن كانت شاذة، لأن من طبيعة الجدل البرهاني نفسه أن يقضي عليها ويلغيها.
تلك خلاصة أطروحة روبرت جورج التي تعبر عن اتجاه بارز حالياً في الفلسفة السياسية والأخلاقية الأميركية، يتبنى المفهوم اللاهوتي الوسيط للعقل والحقيقة، من منظور استقلالية الأفكار عن السياقات التأويلية البعدية، لغوياً واجتماعياً وقيمياً. لقد كانت هذه الفكرة، مع ما يرتبط بها من مذهب القانون الطبيعي، أساس الفلسفة الوسيطة (في جانبيها الإسلامي والمسيحي)، إلا أن الحداثة أدخلت بعداً جديداً حاسماً هو بعد الذاتية أي الوعي المفكر والإرادة الحرة.
ومع أن الفلاسفة المحدثين حافظوا على مطلب الحقيقة الموضوعية (سواء من خلال نموذج التحقق الموضوعي أو من خلال نموذج تداخل الذوات)، فإنهم أكدوا الارتباط العضوي بين المفاهيم النظرية والتقويمات الحيوية، بما يعني رفضَ أي انفصال للعقل عن دائرة الفعل الإنساني في أبعادها التاريخية والرمزية والقيمية.
إن الرجوع إلى العقل الوجودي (الذي بلوره أرسطو وابن رشد) بديلا من العقل الذاتي (الديكارتي) خيارٌ عقيم، حتى لو كان من الصحيح أن الخروج من أفق الحقيقة والعقل باسم جمالية الإحساس وحرية الاختيار المعيش انتحار جماعي، لما يؤدي إليه من نزعة نسبية تنسف مقومات الإجماع والتوافق مجتمعياً وكونياً. كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يقول، إن لغز الحقيقة الكبير هو أن كل الناس يؤمنون بها، لكنهم يختلفون في مضمونها الفعلي، لكن من دون شجاعة قول الحق - حتى لو كان معرضاً دوماً للتزييف والتلاعب - لا معنى للحرية ولا الديمقراطية.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
22 يونيو 2025 22:25